سألتُه، في آخر اتّصال معه قبل حوالى الشهر: كيف ترى السجن بعد أكثر من سبع سنوات؟ بدا مطمئنّاً جدّاً، وقال: «لديّ همٌ واحدٌ فقط؛ هو أنّني لا أستطيع تقديم خدمة للناس وأنا قيْد الاعتقال». على رغم ظروف سجنه القاسية، لا يزال الرَجل يبحث عن طُرق يمكن أن تنقذ الناس من الاستبداد. ومِثل هذا الموقف كان واضحاً في سياق رسالته في الذكرى السابعة لاعتقاله، إذ أكد أنه لا يزال يحمِل هموم الناس وقضاياهم، ويُقلقه تحوُّل بلاده إلى موطن من مواطن الصهيونية العالمية. ويُقلق الشيخ علي سلمان، أيضاً، أن يتغوّل الفساد في كلّ مرافق الدولة، وتتحوّل العائلة الحاكمة إلى ثقب أسود يُغرِق البحرين في الدَيْن العام والعجز الاقتصادي المستديم. ولعلّ أكثر ما يؤرّقه، إهدار كرامة الناس والنظر إليهم كرعايا لا كمواطنين، يَستبدُّ بهم الحاكم ويُحوّلهم إلى مُستخدَمين لأفراد عائلته. تدهورت الأمور إلى الأسوأ بعد اعتقال الشيخ سلمان في عام 2014، وتحوّلت البحرين إلى بحرين أخرى. الجزيرة الصغيرة باتت سجناً كبيراً يمتلك الصهاينة مفاتيح الحلّ والربط فيه. وفي عام 2020، بعد وفاة رئيس الوزراء، خليفة بن سلمان، عُقد لقاء في أحد القصور الملكيّة، تمّ فيه تقسيم البحرين بين أبناء الملك، وجُعلت كلّ ثروات الدولة مساحات خاصّة تشبه كثيراً النظام الإقطاعيّ، الذي أَسقطته ثورة البحارنة قبل مئة عام في انتفاضة 1922، أمام مقرّ المعتمديّة البريطانية. وفي عام 2023، تُدار البحرين من قِبَل مستشارين صهاينة وظيفتهم الأساسية هي تضخيم الثروات الشخصيّة لأفراد العائلة الحاكمة، وبالأخص أبناء الملك؛ فوليّ العهد يُدير نصف اقتصاد البحرين من شركات وضرائب وأراضٍ، وأخوه غير الشقيق، ناصر، يستولي على قطاع النفط والغاز.
على العائلة الحاكمة في البحرين أنْ تتواضع كثيراً، وأن تَقبل بقيود المواطَنة المتساوية


وبالعودة إلى خطابات الشيخ علي سلمان، قبل اعتقاله، ولا سيما مرافعته أمام المحكمة، المعروفة بـ«مرافعة وطن»، سنجد سبب حنَق العائلة الحاكمة عليه، وسعيها الحثيث إلى التخلّص من وجوده السياسي. كان «المشير» خليفة بن أحمد واضحاً في تنفيذ تلك الرغبة في عام 2012، لكنه بدا عاجزاً وفاشلاً جدّاً كفشله في إدارة فترة السلامة الوطنية والأحكام العُرفية. الملك حمد، بدوره، كان يخشى مقابلة سلمان، لأن الأخير هو الوحيد الذي «يهزُّ كأس الملك»، ويجبره على أن يتجرّع مرارة المواجهة. ففي كلّ لقاء معه، كان حمد يعجز عن اتّباع البروتوكولات الملكيّة، فتَسقط هيبته في حضرة «الشيخ». ومن الناحية الاستراتيجية، كان اعتقال سلمان ضرورة تمليها مرحلة ما بعد عام 2014، التي أقرّ «مجلس الدفاع الأعلى» فيها مشاريع استراتيجية عدّة، على رأس قائمتها مشروع التطبيع، وتقسيم البحرين إقطاعياً، ووأد المعارضة السياسية، والإفقار الاقتصادي، واستبدال الهوية السياسية والدينية للبحرين. فهذه الحزمة الواسعة من المشاريع المضادّة لمشاريع المعارضة السياسية، تطلّب إنجاز صيغتها الأولى أكثر من عشر سنوات، لتصبح جاهزة للتنفيذ بعد عام 2014، أي قبل انطلاق الانتفاضة في شباط 2011. ووفق هذه الرؤية، تصبح مسألة اعتقال سلمان واضحة تماماً، كونها لا علاقة لها بالتُّهم التي وُجّهت إليه في المحكمة الأولى، ولا في الثانية. فعلى سبيل المثال، كان «الشيخ» الرَجل الأكثر قدرة على إيقاف قطار التطبيع لو أنه حرّ.
وهنا، أعيدت الذاكرة إلى حادثة إسقاط جنسية الشيخ عيسى قاسم، وفرْض حصار على منزله في بلدة الدراز، حين كان الشيخ سلمان يرى أن تحوُّل المنامة إلى عاصمة مواجهة شرسة، سيجبر النظام على التراجع وعدم المسّ بمكانة المرجعيّة الدينية وهويّة البحرين الأصيلة. ويستطيع أيّ شخص تعرّف إلى سلمان التأكيد أنّه ربّما سيفاوض النظام في بعض المطالب السياسية، لكنّه لن يَقبل مطلقاً بأنْ تُمسَّ هوية البحرين السياسية والدينية، وكان سيوفّر كلّ جهده لإسقاط ومواجهة مشروع التطبيع، ومشروع استهداف المرجعية الدينية، وهوية البحرين السياسية والدينية.
وفي الذكرى الثانية عشرة لانطلاقة انتفاضة البحرين، تتأكّد الحاجة إلى أن يكون سلمان واقفاً إلى جوار قيادة المرجعية الرشيدة الممثّلة في الشيخ الوالد، عيسى قاسم، لتطبيق رؤيتها لبحرين متعافيةٍ متصالحةٍ وآمنة. وفي هذه الذكرى، من الواجب على حكومة قطر أن تضع ملفّ سلمان في خانة المسؤولية، عبر العمل على إسقاط تُهم التخابر مع الدوحة، التي أُلصِقَت جزافاً وبشكل كيديّ بالشيخ وزملائه. كما على القوى الداعمة والحليفة للعائلة الحاكمة في البحرين، أنْ تُوقفَ تدخّلها المشين، وأن تقف ولو لمرّةٍ واحدةٍ مع مطالب الشعب وسعيه لرفْع الوصاية عنه. وفي المقابل، على العائلة الحاكمة أنْ تتواضع كثيراً، وأن تَقبل بقيود المواطَنة المتساوية، وأن توقف مشاريع الإقطاعيات والتطبيع، واستبدال الهوية واستهداف المرجعيّات الدينية.

* كاتب وباحث بحريني