رام الله | تتعرض السلطة الفلسطينية في رام الله لتحد جديد هو استثمار قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بفتح تحقيق عاجل في الحرب الإسرائيلية على غزة. وبرغم أن نتائج تقرير لجنة التحقيق التي تقرر تشكيلها الأسبوع الماضي ستتضمن على الأرجح إثباتات واضحة لارتكاب إسرائيل فظاعات ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، كما كان الحال في تقرير غولدستون عن الحرب عام 2009، فإنه من غير المتوقع أن يؤدي إلى عقوبات من أي نوع، تُفرض على الاحتلال أو قادته.
في هذا الإطار، يقول خبير القانون الدولي الإنساني، عبد الله أبو عيد، إن تقارير مجلس حقوق الإنسان مُلزمة نظريا فقط «لأن المجلس لا يملك آليات تطبيق قراراته على الأرض، كفرض عقوبات اقتصادية أو سياسية أو عسكرية».
وكي تكون نتائج لجنة التحقيق، المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان مؤثرة، هناك طريقان، إما أن يرفع مجلس حقوق الإنسان نتائج التحقيق إلى مجلس الأمن، أو أن يلجأ الفلسطينيون إلى محكمة الجنايات الدولية، وهو الأمر الذي يبدو أن السلطة خطت فيه الخطوة الأولى، بإعلانها قبل يومين أنها قررت توقيع اتفاق روما لمقاضاة إسرائيل أمام محكمة الجنايات.
ويقول أبو عيد إنّ من غير المجدي الأخذ بالخيار الأول «لأن مجلس الأمن ببساطة منحاز على مر السنين إلى إسرائيل، ونظام عمله يخضع لموازين القوى الدولية، إذ بإمكان الدول العظمى الخمس استخدام حق النقض ضد أي قرار، وهو ما تفعله الولايات المتحدة عادة مع تل أبيب»، مضيفا: «حصّنت إسرائيل على مدار سنوات الصراع مع الفلسطينيين نفسها، وبَنَت مصالح تضمن لها وقوف الدول الكبرى المسيطرة على الهيئات الدولية في صفها، كما أثبتت براعتها في استغلال كل الثغر التي يمكن أن تؤثر في قوة أي قرار يصدر عن تلك الهيئات».
تبقى الطريق الثانية لتجنب السناريو المستهلك، عبر اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، ويتطلب هذا توقيع النظام الأساسي للمحكمة المعروف باتفاقية روما، وهي الخطوة التي دوما ما كان يلوح بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كردّ على انعدام السبل السياسية والديبلوماسية للحل، ولم يصدر عن أي جهة حتى كتابة هذا النص أن قرار التوقيع جرى بكل إجراءاتها.

حاولت مؤسسات حقوقية فلسطينية تقديم دعاوى في بعض الدول، لكنها لم تنجح



برغم ذلك، وبرغم انطباق الشروط اللازمة لإدانة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، تؤدي إلى فرض عقوبات عليها، قد تصل قانونا إلى تدخل عسكري في الحد الأقصى، كما حدث في السودان، وقبلها في العراق وكوسوفو، فإن الأمر لا يبدو بتلك السهولة «لأن العضوية في محكمة الجنايات سلاح ذو حدين، فهو يؤهل إسرائيل، حتى لو لم تنضم إلى المحكمة، لإقامة دعاوى على زعماء حماس والجهاد الإسلامي وكل القيادات التي تُصرح بما يمكن أن يسجل تحريضا على القتل» يضيف أبو عيد.
ويرى الخبير القانوني أن الانضمام إلى المعاهدة يحتاج إلى «قرار وطني مبني على دراسة كل الاحتمالات والموافقة على تحمل النتائج»، لكن مدير مؤسسة الحق لحقوق الإنسان، شعوان جبارين، ينظر إلى أن «محاكمة المقاومة من جهة إسرائيل، يجب ألا تبقى فزاعة لتبرير التأخر، لأن هناك مرتكزات قانونية للدفاع عن المقاومة، منها أنها في حال رد فعل، وأن من يقف على الفعل هو الاحتلال».
الأمر الثاني الذي ذكره جبارين هو أنه لا وجود لضحايا مدنيين في الجانب الإسرائيلي، وللدقة، فإن مقارنة الأعداد بين أي ضحايا مدنيين إسرائيليين وفلسطينيين تظهر فارقا كبيرا. الأمر الذي عزاه مدير «الحق» إلى أن المقاومة حرصت على تجنب المدنيين، «فضلا عن أنه بات التشكيك في عشوائية إطلاق صواريخ المقاومة غير ممكن، إذ من الممكن القول إن القصف كان يستهدف وزارة الجيش أو معسكرات في تل أبيب لا مدنيين».
ولا يرى جبارين أي مبرر في تأخر القيادة الفلسطينية عن قرار الانضمام إلى محكمة الجنايات، «إذ كان بإمكانها مقاضاة إسرائيل قبل ذلك على جرائم أخرى غير القتل، كالاستيطان مثلا الذي هو جريمة ثابتة لا يمكن إدانة الفلسطينيين فيها بأي حال».
وسابقا حاولت مؤسسات حقوقية محلية أن تلاحق مجرمي حرب إسرائيليين قضائيا في ميادين أخرى غير محكمة الجنايات الدولية، كما فعلت مؤسسات فلسطينية أقامت دعاوى في البلدان الموقعة على اتفاقية جنيف، لكن أيا من هذا الدعاوى لم تؤدِّ إلى إلقاء القبض على المتهمين. من ذلك ما حدث مع إيهود باراك، وهو وزير الدفاع الإسرائيلي في حرب عام 2012، إذ رفعت مؤسسة الحق قضية عليه لكن وزارة الخارجية البريطانية راوغت في قوانينها الداخلية، لتتجنب أزمة سياسية مع إسرائيل، وعدته ضيفا مدعوّا بصفة رسمية لا يجوز اعتقاله، مع أنه كان ذاهبا بصفته الشخصية لجمع أموال لمصلحة إسرائيل من منظمات يهودية في بريطانيا، وفق مصادر إعلامية، وبناءً عليه أفلت باراك من العقاب.
الأمر نفسه تكرر مع المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، الذي رفع قضية على دورون ألموج، الذي كان قائد المنطقة الجنوبية والمسؤول عن تدمير 59 منزلا في رفح دون أن تكون هناك ضرورة أمنية. وكان من المتوقع اعتقاله بمجرد وصوله مطار هيثرو، لكن الأمر سُرب له فعاد على الطائرة نفسها التي سافر فيها، وأفلت هو الآخر.
في المقابل، يؤكد جبارين أن المؤسسات الفلسطينية ستستمر في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين «حتى لو استمرت بعض الدول بالتغطية عليهم، إذ يكفي أن يشعر هؤلاء المجرمون بأنهم ملاحقون ومذنبون».
وفي أحسن الأحوال لا يدل تعاطي السياسيين الفلسطينيين مع قرار مجلس حقوق الإنسان فتح تحقيق على أنهم يدركون أن التحقيق ليس إلا بداية لطريق شاقة وطويلة، لكن وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي القرار على أنه «إنجاز سياسي» للرئيس عباس، وأعلن أنه يهديه إلى «شعبنا الفلسطيني وصموده في غزة». بناء على ذلك، فإن السيناريو المتوقع أن تصل نتائج لجنة تقصي الحقائق إلى أروقة مجلس الأمن، وتُذبح كما سابقاتها بنصل الفيتو الأمريكي. وتكون الفائدة الوحيدة التي تحققت فضح جرائم إسرائيل على نطاق إعلامي وسياسي محدود، سينتهي أثره مع الوقت أو شن حرب أخرى.