تونس | انتهت الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية التونسية بصناديق ومكاتب اقتراع شبه خالية ومهجورة، إذ لم تؤثّر دعوات الرئيس قيس سعيد و»هيئة الانتخابات» المتتالية، إلى المواطنين للمشاركة في هذا الاستحقاق في تغيير النتائج التي جاءت على صورة الدورة الأولى. لكن ما يُحسب لسعيد، وفق مراقبين، أنه لم يُقدم على تزوير النتائج، كما كان يجري قبل الانتفاضة وبعدها، بل هو بدا مكتفياً بما ستؤول إليه نتائج الاقتراع الذي يُفترض أن يَسنده إلى حين مغادرته قصر قرطاج في 2024، إلّا إذا قرّر الترشُّح لولاية رئاسية جديدة يثبّت خلالها ما بدأ في بنائه للتوّ
انتهت الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية في تونس، على نفس الصورة التي انتهت إليها الدورة الأولى، بمقاطعة شعبية للحدث الذي لم تتجاوز نسبة المشاركين فيه الـ11% (880 ألف مقترع من مجموع نحو 7 ملايين ناخب مسجّل). مع هذا، وصفت «الهيئة العليا للانتخابات»، النسبة، بـ»المرضية»، معتبرة أن «أهمّ مبادئ الديموقراطية تقوم على احترام تصويت الناخبين مهما كان عددهم طالما استوفت العملية الانتخابية جميع شروطها التقنية والفنية والقانونية، فيما على المقاطعين والعازفين تحمُّل مسؤولية ما أفضت إليه قراراتهم بعدم المشاركة».
وربّما لم يكن التونسيون ليتنبّهوا إلى هذا الاستحقاق من دون البروباغندا المبالَغ فيها للتلفزيون الرسمي، الذي تحوّل، منذ تعيين رئاسة الجمهورية مديرة مشرفة عليه مقرّبة منها، إلى مجرّد قناة اتصال رئاسية، ضارباً عرض الحائط بأساسيات المهنة، حتى أن مديرته استعانت بخبرات نظام زين العابدين بن علي في التواصل، مقدّمة برامج عن «عرس انتخابي» لا مكان له إلّا في مخيلة الرئيس قيس سعيد، ونظامه. كذلك، لم تَفلح محاولة وزارة الداخلية تسويق «نظرية المؤامرة» قبيل الانتخابات بساعات، فحتى لو كانت بياناتها عن وجود مجموعات رهّبت المواطنين، حقيقية، فإن ما سبق لن يغيّر، على أيّ حال، كثيراً في نسبة المشاركة. فمردّ عزوف التونسيين عن المشاركة، إلى مواصلتهم تحمُّل الهموم اليومية وصعوبة المعيشة والإحباط الناجم من فشل الحكومات المتعاقبة في تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، فيما زادت همومهم بفقدان المواد التموينية وانهيار قدرتهم الشرائية أمام تفاقم التضخّم، وهم يَعون جيّداً أن الحكومة الحالية التي جاءت بوعود كبيرة لجهة الإصلاح وتحسين الأوضاع، غير قادرة على الوفاء بوعودها هذه، بل هي أَثبتت، في مواضع مختلفة، أن لا برنامج إنقاذ لها، ولا رؤية، بل فقط ارتباك كبير في معالجة إشكاليّات بسيطة.
ويبدو أن ما يزيد من احتقان التونسيين، هو الاعتمادات والأموال الموجّهة لإنجاح استحقاقات سياسية غير ذات معنى بالنسبة إليهم في هذه الفترة؛ فإجراء استشارة ثم استفتاء على الدستور واستحقاقَين انتخابيَّين، استوجب ضخّ مبالغ هائلة، يَعتقد كثيرون أنه كان من الأجدى الالتفات إلى توجيهها لموازنتَي الاستهلاك والتنمية، أو التقشّف بشكل عام في ظلّ الوضع الاقتصادي الحالي. وبالتوازي، أصابت خيبة أخرى الشارع التونسي بعد إقدام وكالة «موديز» على تخفيض التصنيف الائتماني لهذا البلد إلى «C AA2» مع آفاق سلبية، وعلّلت ذلك بعدم توافر ضمانات لقدرة البنك المركزي التونسي على الإيفاء بالتزاماته. وجاء هذا التخفيض قبل يوم من الاستحقاق الانتخابي، فيما لم يكلّف الرئيس أو وزيرة ماليته، عناء التحدّث إلى التونسيين لطمأنتهم. ولكن، لا غرابة في ذلك على اعتبار أن النظام بأكمله لا يمتلك إجابات عن الوضع الاقتصادي، وهو حرص على تأكيد إنجاح المواعيد الانتخابية، صامّاً آذانه عن ما يرافقها من أزمة.
ألقت سياسة سعيد الصمّاء التي لا تتفاعل بتاتاً مع الانتقادات الموجّهة إليها بظلالها على خصومه


ويثير نظام سعيد عدّة ملاحظات في تعاطيه مع العملية الانتخابية؛ فهو وعلى رغم المنحى الاستبدادي الذي يتّهمه به خصومه، لم يلجأ إلى تزوير الانتخابات، حتى إن منظّمات المجتمع المدني التي راقبت المسار أقرّت بأن المواعيد الانتخابية لم تشبْها اختلالات أو تزوير. وتوقع مراقبون أن يلجأ نظام الرئيس إلى رفع نسبة المشاركة، وحفظ ماء وجهه عبر تزوير الصناديق أو الاستعانة بحيل استعانت بها الأحزاب السياسية قبل الانتفاضة وبعدها، وفق ما أثبتته محكمة المحاسبات في تقاريرها، ومن بينها مشاركة الأموات في الانتخابات، وتزوير الحبر الانتخابي لتمكين الشخص من التصويت أكثر من مرّة، أو تدليس تصويت الأميين وكبار السنّ. لكن سعيد كان مستبداً بطريقة أخرى مختلفة تماماً، فهو لم يزوّر إرادة الناخبين فيوهمهم، كما حدث زمن التوافق بين «النهضة» و»نداء تونس» في 2014، بأن الآخر هو الجحيم في إطار نظرية التصويت المفيد للحداثيين من أجل طمس الإسلاميين وإنهائهم، بل تموضع الرئيس على يمين «النهضة» وكلّ الطيف السياسي، داعياً إلى التصويت للثورة ومَن يمثّلها، مستغلّاً ترشُّح عدد واسع من نشطائها، فيما لم يقم بتضخيم نسب المشاركة أو الدفع في اتجاه رفعها، بل اعتبرها كافية لقيام سلطة تشريعية تسنده في المرحلة المقبلة. وبذلك، سدّ الرئيس باب الذرائع أمام خصومه، فلم يبقَ لهم إلّا الدعوة إلى إلغاء نتائج الانتخابات بناءً على ضعف المشاركة، من دون اتهامات له بالتزوير أو التدليس والتشكيك في النتائج، وهي نقطة بدت لمصلحته، وتمظهر ذلك في بيانات المؤسسات الدولية والقوى الإقليمية التي اعتبرت أن المرحلة المقبلة مرحلة بناء تشاركي وإصلاحي، ولم تذكر إلغاء الانتخابات أو العودة إلى البرلمان السابق.
سياسة سعيد الصمّاء التي لا تتفاعل بتاتاً مع الانتقادات الموجّهة إليها، ألقت بظلالها على خصومه بعد انتهاء الاستحقاقات الانتخابية. فاليأس من تغيُّر ما في سياسته كان منتشراً في مواقف وتدوينات خصومه، وأقرّ أغلبهم أن عدم تجاوب الرئيس يعني الانتظار إلى حين انتهاء عهده نهاية عام 2024، وإجراء الانتخابات الرئاسية التي، في حال لم يشارك فيها، ستفضي إلى صعود شخصيات جديدة انطلقت القوى الإقليمية منذ مدة في التسويق لها ودعمها إعلاميّاً لتحلّ محلّه، ومن ثم صياغة مرحلة انتقالية للبلاد تمحي ما أسّس له قيس سعيد. ولا تبدو هذه الفرضيّة، على رغم مراهنة سياسيين كثر عليها، مضمونة بشكل تام، طالما لم يُعرف بعد موقف سعيد الذي لا يزال يتصدّر نوايا التصويت في جميع نتائج استطلاعات الرأي التي تصدر حتى من جهات معادية له، من إعادة الترشّح لفترة ثانية، وهو أمر غير مستبعد بل ويبدو مستحيلاً، فما يرسمه الرجل الآن لا يمكن أن يخاطر بالمغادرة قبل تثبيته ويسمح بمحوه بمجرّد مغادرته قصر قرطاج.
وتفصل أيّام على انعقاد أولى جلسات البرلمان الجديد، الذي تشكّل، وفق قراءة أولية، من كتلة وازنة لنشطاء ثورة «14 جانفي»، وهي تقريباً النقطة الوحيدة التي تُحسب له. ولم يخل البرلمان الجديد من ممثّلين مستترين للأحزاب السياسية التي لم تشارك علناً في الانتخابات، إضافة إلى تمثيله للأحزاب الداعمة للرئيس أو تلك التي ادّعت دعمه من أجل الحاصل الانتخابي. ولن يكون البرلمان المقبل كسابقَيه، فلا غالبية لرجال الأعمال والمهن الحرّة «النبيلة» كالأطباء والمهندسين والمحامين فيه، بل ساهم النظام الانتخابي الذي وضعه الرئيس في صعود فئات اجتماعية لم يكن لها حضور سابقاً، كالعاطلين من العمل والعمّال والشغالين.