ترك خلفه دلواً من الدهان، وأغلق رامي (اسم مستعار) باب غرفته في مخيم برج الشمالي، وتوجّه منذ 10 سنوات إلى «الحلم الأوروبي»، على متن مركب من الخشب مع 114 آخرين. تاه في البحر لمدة أربعة أيام، في رحلة تستغرق ثلاث ساعات كحدّ أقصى، ووصل إلى قبرص، اضطرّ إلى البقاء أكثر من سنة ونصف سنة، ليسافر بعدها بجواز سفر تونسي مزوّر إلى تركيا وبعدها إلى اليونان، ثم وصل إلى رومانيا التي سجن فيها 8 أشهر، ليتوجّه بعدها إلى لندن حيث يستقر الآن منذ سنوات، من دون أن يحصل على أوراق لجوء أو إقامة. إنها «رمية حظ»، هكذا يرى رامي الهجرة من المخيم. فالبعض يحصل على أوراق الإقامة في أربعة أيام، في حين أن عمّه لا يزال يقّدم طلبات إلى السلطات للحصول على الإقامة ويفشل منذ 17 عاماً، ورامي ينتظر منذ ما يقارب التسع سنوات.رامي يحارب للعيش هناك، ولا يزال لاجئاً أينما حلّ، لكنه يدعو كل شخص يعرفه إلى الخروج من لبنان، واللجوء إلى أي دولة أوروبية، لأنه حسب ما يقول: «لن تموت من الجوع في هذه البلاد عندما تعمل». فعلى الرغم من أنه لا يزال يعمل بمهنة البناء، ووصفه لحال الطبابة بالمملّة وغيّر الفعّالة في بريطانيا، وانتقاله من لندن إلى مدينة في الأطراف بسبب الأزمة المالية بعد الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن الحياة مع بعض «الشوارع النظيفة» أسهل من «ضيق التنفس» في زواريب المخيم.

يخرجون صغاراً وكباراً
هناء دغمان، لاجئة فلسطينية أخرى من مخيم برج البراجنة، وصلت حديثاً إلى ألمانيا من دون أي فرد من عائلتها، بعد حوالي 90 يوماً قضتها متنقلة بين المطارات والبحار. أغلقت منزلها في مخيم البرج بجنزير حديدي، وأخذت مفتاحه معها كما فعلت والدتها عندما خرجت من فلسطين أول مرة. لم يكن خروجها من المخيم بالأمر السهل، فهي ابنة الـ 63 عاماً، ولدت في المخيم وكوّنت كل ذكرياتها فيه. تركت لبنان لأنها «تفضّل الموت على طريق أوروبا على الموت في مستشفيات لبنان». شجّعها ابنها الذي هاجر قبل 10 سنوات وكوّن أسرته في ألمانيا.
لم تكن رحلتها مريحة، مع تكلفتها الباهظة مقارنة بأسعار السوق، إذ بلغت مصاريف طريق سفرها، من لبنان إلى سوريا فتركيا ثم اليونان، قرابة الـ 17 ألف يورو، بسبب حاجتها إلى اجتياز الطريق من دون «تخطّي الجدران وتسلّقها». كسرت هناء الصورة النمطية للمهاجرين الذين عادة ما يكونون في عمر الشباب.
أغلقت منزلها في مخيّم البرج بجنزير حديدي، وأخذت مفتاحه معها كما فعلت والدتها عندما خرجت من فلسطين أوّل مرّة


لاجئ أينما حللت
«من بيت تملكه في المخيم إلى غرفة تشبه غرف مستشفى حيفا في مخيم برج البراجنة، ودورة مياه مشتركة مع الآلاف»، هكذا يصف ربيع السلعوس السنوات الأولى في ألمانيا. فالعنصرية في كل مكان، والأولوية للأوكراني اليوم، ويختلف الوضع القانوني من بلد أوروبي إلى آخر. ينصح ربيع أيّ مهاجر بأن يعرف «دهاليز القوانين» في الدول الأوروبية، يلجأ البعض إلى إنجاب الأطفال ليحصل على الإقامة التي تخوّله السفر والخروج بشكل قانوني من البلاد. أمّا في ألمانيا، فدائماً ما يصدر تحديث للقوانين في ظل الأزمة العالمية الراهنة.
عائق اللغة والتأقلم البطيء يجعلك غريباً في كل مكان، هذا شعور «المهاجرين القدامى»، أمّا من يصل في هذه السنوات فلن يتمكن من إتقان الألمانية مثلاً بسبب كثرة من يتكلمون العربية في المحيط. ربيع مهاجر منذ أكثر من 10 سنوات، بات يعرف شبكة كبيرة من الفلسطينيين في أوروبا، وأصبح يساعد العديد من الأصدقاء أو من يطلب المساعدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال تقديم المعلومات لطرق الهجرة، من دون مقابل. فمجموعات عديدة في «فايسبوك» تعجّ براغبي الهجرة، إلا أنه يرى أن الغالبية تتّجه إلى مهرب حتى لو طلب 5 أضعاف المبلغ اللازم، فبعض المهرّبين يذيع صيتهم في المخيمات، يطلبون مبالغ تترواح بين 5 آلاف إلى 10 آلاف دولار للشخص الواحد، مع العلم أن بعض الطرق تكلف ألفَي دولار فقط.
لا يفكر ربيع بالعودة الدائمة، فما يعتبره الأوروبي وضعاً أو معيشة سيئة يراه الفلسطيني أفضل من الحياة في لبنان، ويمكن أن يكون مصدر رزق عائلة كاملة في المخيم، وخاصة مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، ما جعل بعض الدولارات القليلة عوناً كبيراً لعائلات المغتربين من المخيمات.
وجود ربيع في بلاد بعيدة عن فلسطين يجعله أكثر فهماً وتمسكاً بحقه، كما يقول: «نحن نحمل الحقد على عدونا الذي بسببه وصلنا إلى هذا الشكل من الحياة».

خروج من الموت
يحلم بهاء أبو دوما صاحب «قهوة» في مخيم شاتيلا بحياة وردية، فبعد رحلة صعبة من طرابلس، غرق فيها المركب في عرض البحر، إلا أنه يكرر دائماً «في غد نسافر» على مسامع أهل المخيم، يحدثه صديقه الأربعيني عن رحلته إلى ألمانيا التي عاد منها بعد 3 سنوات لبشاعة المخيمات هناك و«كثرة الذلّ وقلة الكرامة»، إلا أنه لا يكترث ويدير «أذنه الصماء».
في رحلته الأولى، باع جميع الذهب الذي تملكه والدته، والآن ينتظر ليجمع القليل من المال ليهاجر مع خطيبته. يضحك أبو دوما عندما نسأله عن شعوره بالخوف عند غرق المركب، يستذكر مشهداً واحداً، هو إجبار أحد المهاجرين على متن القارب، على خلع سترة النجاة بالقوة، لأنه لا يملك واحدة منها قبل الإبحار، وصل إلى تركيا وهو يسبح وقضى فيها أشهراً ليعود إلى لبنان، ويبدأ التخطيط من جديد لسلوك طريق آخر أكثر أماناً، غريب أمره، يظن الواحد منا أن مجرد سماع أخبار غرق المهاجرين، رادع كبير للآخرين، فكيف بمن جرّب الغرق، إنه إصرار الخروج من الموت عبر طريق الموت.