على رغم أنها ليست المجزرة الأولى لجيش العدو، ولن تكون الأخيرة، إلّا أن السياق السياسي الإسرائيلي والأداء المعلَن لحكومة الاحتلال الجديدة، يُعزِّزان التقديرات بأن العملية الدامية التي استهدفت مخيّم جنين، أمس، إنّما تمثّل دفْعاً إضافياً في مسار التصعيد، في اتّجاه انفجار أكبر على الساحة الفلسطينية، ونشوب مواجهة عسكرية قد تشمل الضفة الغربية المحتلّة وقطاع غزة معاً. ومع أن هذا الاعتداء يمثّل ترجمة لسياسات أمنية وحكومية، إلّا أنه يشكّل أيضاً مطلباً لكلّ من رئيس أركان جيش العدو، هرتسي هليفي، الذي تمثّل هذه المجزرة باكورة «إنجازاته» الإجرامية في مواجهة الشعب الفسلطيني بعد تسلُّمه منصبه الجديد؛ ورئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في ظلّ ما يُواجهه الأخير من حركة اعتراض في الشارع الإسرائيلي، يُتوقّع أن تستمرّ في التصاعد. وبذلك، يحاول نتنياهو حرْف الأنظار نحو العناوين الأمنية، وتقديم نفسه بوصْفه القائد الذي يبذل جهوده لـ«حماية الأمن» الإسرائيلي، في الوقت الذي يتعرّض فيه للسهام الداخلية من مُعارضيه في المعسكر المقابل. أمّا شركاؤه من اليمين الفاشي، فسيصدّرون ما شهدتْه جنين صباح الأربعاء، على أنه من «إنجازاتهم»، وبفعل دورهم في صناعة القرار الأمني من خلال المناصب التي تولّوها، وترجمةٌ لوعودهم الانتخابية.في البُعد الإعلامي، أقرّ ضابط في جيش العدو بحجم المقاومة التي تعرّضت لها قوّاته لدى اقتحامها مخيّم جنين، لكنه حاول توظيف ذلك في سياق تبرير المجزرة التي ارتكبها جنود الاحتلال، إذ اعتبر الضابط، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية، أن ارتقاء هذا العدد من الشهداء الفلسطينيين «قياساً إلى كمّية النيران التي تعرّضت لها القوّات، هو أقلّ ممّا كان يمكن أن يجري»، ساعياً من خلال ما تَقدّم إلى الإيحاء بأن القوات الإسرائيلية مارست قدْراً من تركيز النيران، ولولا «انضباطها» هذا، لسقط عدد أكبر من الشهداء الفلسطينيين، في ما يمثّل تجلّياً لسياسة إعلامية تتّبعها سلطات العدو عقب كلّ مجزرة بحق الفلسطينيين. وفي سياق تبرير الجريمة أيضاً، أضاف الضابط إن الواقعة «مرتبطة بمستوى التهديد»، كما لو أنه لم يكن لدى جنود الاحتلال من خيار بديل لحماية أنفسهم. وإذ سعى الجيش الإسرائيلي إلى احتواء تداعيات فِعلته بالقول إنها لا تعبّر عن «تغييرٍ في سياسة ممارسة القوّة»، فإن استشهاد سيّدة في الستّين من عمرها، خلال العملية، كان من شأنه تقويض الدعاية التي واكبتْها، ولذا برزت الحاجة إلى إعلان نتيجة «تحقيق أوّلي» بعد مُضيّ ساعات على الهجوم، يُبرّئ جيش العدو، ويلقي المسؤولية على المقاومين في سقوط المدنيين، كما هي العادة دائماً. وفي تعمية مقصودة على حقيقة ما جرى، عمد الضابط الإسرائيلي المذكور إلى تغليف خلاصة «التحقيق» المزعوم بقدْر من الموضوعية، قائلاً إنّ «من الجائز أن تكون هذه المرأة قد واجهت نيران مسلّحين فلسطينيين، لكن ليس لدينا كل المعلومات كي نؤكّد ذلك بشكل قاطع». وبذا، يَجمع بين وضْع المقاومين في موضع الاتهام، وإبعاد الشبهة عن قوات الاحتلال، وفي الوقت نفسه إضفاء صفةٍ مؤقّتة على «التحقيق» في مواجهة أيّ شبهات أو تساؤلات قد تقوّض تلك السردية الإسرائيلية.
أقرّ ضابط في جيش العدو بحجم المقاومة التي تعرّضت لها قوّاته لدى اقتحامها مخيّم جنين


أمنياً، أعلن نتنياهو ووزير جيشه، يوآف غالانت، أنهما أجريا نقاشات مع قادة الأجهزة الأمنية في الجيش و«الشاباك» حول الوضع الراهن، مُوجّهَين بالاستعداد لكلّ السيناريوات، بما فيها الردّ الذي لا تستبعده قوّات الاحتلال نتيجة ضخامة الجريمة، التي يبدو أن العدو حاول، من خلالها، إيصال رسالة إلى المقاومين بأنه لن يكون لهم «مكان آمن»، وبأن وجودهم ضمن البيئة الحاضنة لهم، والوضع السياسي والأمني الحسّاس، وإمكانية تفجُّر الأوضاع، كلّ ذلك لن يحول دون مبادرة الجيش إلى تنفيذ عمليات ضدّهم في قلْب مخيّم جنين وغيره. ولذا، شدّد الضابط الإسرائيلي على أنه «ليس هناك مكان يخشى الجيش العمل فيه»، في الوقت نفسه الذي أعاد فيه اجترار النهج ذاته عند كلّ حدث أمني مشابه، بمحاولته تسويغ الاعتداءات والاغتيالات - التي تطال في الصورة الأعمّ أكثر من ساحة داخلية وخارجية -، بوصْف المجموعة المستهدَفة بها بأنها «قنبلة موقوتة»، في مسعى لإكساب العدوان نوعاً من «المشروعية».
في المقابل، تثبت التجارب التاريخية في فلسطين أن هذه السياسة لم تُحقّق، على مرّ عقود تفعيلها، الرهانات المرجوّة منها، إذ إنها لم تنجح في ردْع المقاومين، أو كبْحهم عن المبادرة إلى عمليات في عمق الكيان. ولعلّ هذا هو ما يتخوّف منه جيش الاحتلال وقادته السياسيون والأمنيون، ويَدفعهم إلى رفع حالة الاستعداد والاستنفار، إدراكاً منهم لكوْنهم يواجهون حالة مقاومة، يستحيل إنهاؤها بمِثل تلك الرسائل والإجراءات.