لا تضع إسرائيل كلّ صفقات التبادل التي عقدتْها في الكفّة نفسها، بل ثمّة فارق في النظرة الرسمية والمجتمعية إليها، بين ما أبرمتْه مثلاً مع أنظمة رسمية أو جيوش نظامية في أعقاب حروبها التقليدية منذ عام 1948، وبين ما أجبرتْها الأحزاب التي تتّبع أسلوب حرب العصابات على اللجوء إليه منذ عام 1968. في الحالة الأولى، أطلقت إسرائيل سراح أسرى حرب، مقابل جنودها وهُم أسرى حرب أيضاً، ودفعت أثماناً «مقبولة» في أغلب الأحيان، مِن مِثل الإفراج عن آلاف الأسرى العرب وأكثرهم من المدنيين مقابل استعادة مئات الجنود الإسرائيليين، وهو ما حدث في عامَي 1948 و1973 في صفقات ما بعد النكبة وما بعد «حرب أكتوبر». غير أن مربط الفرس بالنسبة إلى الإسرائيليين، ليس عدد المفرَج عنهم أو حتى نوعيّتهم، بقدْر ما هو ظروف اعتقال جنودها وطبيعة الجهات التي أسرتْهم، ما بين أن تكون منظّمات أو عصابات أو ميليشيات أو دولاً. ولذا، لم تتحوّل صفقات التبادل إلى كؤوس هزيمة صعبة التجرُّع، على الصعيدَين الرسمي والشعبي في دولة الاحتلال، إلّا عندما أصبح الطرف الآخر فيها هو فصائل المقاومة، التي تزخر الصحف الإسرائيلية بالحديث عن قدْر التعقيد والصعوبات التي اعترضت طريق التوصّل إلى اتّفاقات معها طوال سنوات.يمكن القول إن الوعي الإسرائيلي راكم في ذاكرته محطّات هزيمة مكتملة الأركان، جاءت في شكْل صفقات تبادُل. تَحضر، هنا، «عملية الجليل» التي نجحت «الجبهة الشعبية - القيادة العامة» في إبرامها عام 1985، وحقّقت من خلالها جملة من الإنجازات الكمّية والكيفية، أوّلاً لتمكّنها من تحرير 1155 أسيراً أكثرهم من قادة فصائل «منظّمة التحرير»، ومن ذوي المحكوميات المرتفعة، الذين أصبحوا في ما بعد «خميرة الثورة» التي أنْضجت الانتفاضة الأولى عام 1987؛ وثانياً لكوْن مَن قاد المفاوضات غير المباشرة مع الإسرائيليين، هم أنفسهم قادة الأسرى الذين تَحرّروا في صفقة «النورس» - عقدتْها «القيادة العامة» في قبرص عام 1979 وحرّرت فيها 76 قيادياً أكثرهم من «الجبهة» -. كذلك، استطاعت «الشعبية» أن تُملي شروطها كافة على الاحتلال، ووضعت «فيتو» على العبث بقوائم الأسرى المنويّ الإفراج عنهم، وأجبرت مصلحة إدارة السجون على قراءة بيان عبر مكبّرات الصوت كتبه أحمد جبريل بخطّ يده في جميع المعتقَلات، كما لم يُسمح للمفاوض الإسرائيلي بفرض أيّ عملية إبعاد قسري على أيّ من المحرَّرين، إنّما تُرك لهم الخيار لتحديد الوُجهة التي يرغبون في الذهاب إليها.
تتقاطع «صفقة الجليل» بكلّ ما رافقها من أثر معنوي على حواضن الأسرى في غزة والضفة والخارج، ونوعي في رفْد المقاومة بعدد كبير من قيادات الحركة الأسيرة الذين شغلوا في ما بعد مواقع مهمّة في أحزابهم، انعكست على روح الجماهير واستعدادها للتضحية، مع «صفقة شاليط» عام 2011. غير أن المفارقة بين الصفقتَين بيّنها مائير أندور، وهو المدير العام لمؤسّسة «تنظيم متضرّري الإرهاب - الماعوز»، الذي عقّب على احتفالات الفلسطينيين بتحرُّر الأسرى في غزة والضفة بقوله: «إن ما يؤسفني على المستوى الشخصي هو موقف رئيس الحكومة؛ فنتنياهو بنى حياته السياسية على موقفه المعارض لصفقة جبريل (الجليل)، والمسافة بين موقفه السابق وموقفه الحالي في صفقة شاليط تجعل منه شخصاً آخر».
يحقّ القول إن لكلّ عملية من عمليات تبادُل الأسرى ظروفها وتفاصيلها التي تثير الدهشة، لكن تتبُّع تاريخ الصفقات الدسمة، يجعل من صفقة «وفاء الأحرار» الأكثر إعجازاً وإبهاراً، نظراً إلى أنها الصفقة الأولى التي تأتي بعد أن تمكّنت المقاومة من أسْر جندي والاحتفاظ به داخل حيّز جغرافي ضيّق ومحاصَر، تتحكّم إسرائيل بكلّ تفاصيله، وتُراقبه بشتّى وسائل التكنولوجيا على مدار الساعة. ويُضاف إلى ما تَقدّم، أن الظروف الإقليمية والدولية التي رافقت «صفقة الجليل»، من الدعم اللوجستي الليبي والسوري والجزائري، إلى تدخّل وساطات نمسَوية وسويسرية وعربية عدّة، كلّها دفعت إلى تسهيل إبرامها، فيما بقيت المقاومة الفلسطينية في غزة وحيدة وغريبة في موقفها، حتى إن أطرافاً محلّية دعتْها إلى تسليم الجندي تجنّباً للمزيد من الضحايا.
يقول أسامة مرتجى، وهو مؤلّف كتاب «صفقات التبادل الفلسطينية الإسرائيلية»، إن «صفقة شاليط تطابقت مع عملية الجليل في فرْض شروطها على الاحتلال، إذ أجبرتْه كلتاهما على تقديم تنازلات أبزرها الإفراج عن أسرى تَصفهم إسرائيل بأن «أيديهم ملطَّخة بالدماء» (...) لم يكن يتوقّع أحد في كلتا الصفقتَين إنجازاً كالذي تَحقّق، وقد شكّلتا منعطفاً تاريخياً في تاريخ النضال الفلسطيني». يبقى أن الثمن الذي دفعتْه إسرائيل في «صفقة شاليط»، والذي أضيفَ إلى «سجلّ أسود من صفقات الخيبة»، سيعقّد بكلّ تأكيد فُرص التوصّل إلى صفقة جديدة، غير أن «المستحيل» الحاضر حالياً، حضَر بأوجه أكثر «استحالة» في صفقات سابقة، كُتب لها أخيراً أن تتمّ، وعلى الشاكلة التي اشتهتْها المقاومة.