في 23 تشرين الثاني من عام 1958 كان الأب فضل يونس والأم صبحية على موعد مع ولادة كريم الذي سيقضي لاحقاً 40 عاماً من عمره في سجون الاحتلال كأقدم أسير فلسطيني. ترعرع يونس في قرية عارة في المثلث المحتل سنة 1948. درس في بلدته، وبعدها انتقل إلى مدينة الناصرة لإتمام دراسته الثانوية في مدرسة «السيلزيان»، مؤمناً منذ نعومة أظفاره بضرورة وأهمية إتمام تحصيله العلمي وتثقيف ذاته وتطوير عقله كفلسطيني، ليكون تعليمه سلاحاً لا يقلّ أهمية عن أي سلاح آخر في وجه الاحتلال والمشروع الصهيوني الذي غزا وطنه، ساعياً إلى أن يكون سدّاً منيعاً ومحارباً للكيفية التي يفكر بها الاحتلال تجاه الفلسطينيين، بوصفهم غير موجودين.اعتقل يونس في 6 كانون الثاني 1983 من إحدى قاعات جامعة بن غوريون، حيث كان يدرس، حكم عليه الاحتلال بالإعدام، وقد خفّف لاحقاً إلى المؤبد المفتوح. وخلال سني اعتقاله، أتمّ تعليمه في جامعة القدس المفتوحة، ونال البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وأصدر كتابين أيضاً هما: «الواقع السياسي في إسرائيل» و«الصراع الأيديولوجي والتسوية». تحرّر كريم يونس يوم 5 كانون الثاني الجاري، وبعد أيام، تمكنت «الأخبار» من إجراء الحوار التالي معه:

الآن، وقد خرجت من المعتقل بعد أربعين عاماً، هل أنت جاهز لمواجهة تحديات الحرية؟
أعتقد أني جاهز، فتحديات الحرية كثيرة، لكنها لم تبدأ بلحظة الإفراج عني وبانتهاء فترة الحكم، إنما هي ترافقني وأنا خلف قضبان ذلك السجن، فالحرية تسكننا، وقد ضحّيت بسنوات من عمري لأجل حرية تشتقّ منها حريتي، وهي أسمى وأكبر من كل المعاني، قد تكون لحظة رؤية الشمس في السماء لأول مرة دون قضبان، بعد أربعين عاماً، تكتب مرحلة جديدة من الجهوزية. أعلم ذلك، وأعلم أن مواجهة تحديات الحرية لا تأتي دفعة واحدة، وأنا مستعد لذلك. استطعت في البداية أن ألمس حريتي بأشياء بسيطة جداً، لكن الحرية بمعانيها العميقة والمتمّمة تحتاج إلى وقت، إن شاء الله سأستطيع أن أنظر في مرآتي وأبتسم لتحقيق اندماجي مع مجتمعي وأهلي وأبناء شعبي.

ما الفارق بين صراعك داخل المعتقل وخارجه؟
الصراع داخل المعتقل وخارجه هو صراع واحد من أجل هدف واحد، ونحن نعتبر أنفسنا في المعتقل محطة نضاليّة أخرى من محطات النضال. صحيح أنه في المعتقل يضاف إلى ذلك صراع مع مصلحة السجون، وهو صراع يتعلق بشروط حياتنا كأسرى نتعرض للقمع وانتهاك الحقوق الأساسية لنا كأسرى سياسيين، إضافة إلى الصراع العام. لكن كوننا أسرى مناضلين ونطلق على أنفسنا اسم فدائيين، فبالنسبة إلينا الصراع هو ذاته، لكن المحطة الأخرى، في المعتقل هنالك صراعات جانبية لتحسين شروط حياتنا، لكي نعيش بكرامة، وندافع عن أنفسنا وذواتنا لكي نبقى إنسانيين، ولكي نبقى مناضلين ونخرج أحياء نبضاً وعطاءً وانتماءً، وهذا ماهية الصراع داخل المعتقل، لكن هذا لا ينفصل عن صراعنا الأساسي مع هذا المحتل ولا عن قضية شعبنا. من يرى الصراع موجوداً، يفهم أنه في كل التفاصيل، وواحدة داخل المعتقل وخارجه. فالأسير يحمل حقيبة ثقيلة على أكتافه، وهو نضال أبناء شعبنا الذي هو جزء منه.
حان الوقت لأن تجتمع كل الفصائل حول هدف أساسي، وحول أولوية أساسية هي تحرير الأسرى، وهنالك وسائل معروفة لتحرير هؤلاء


وأنت في الأيام الأولى لحريتك، هل باتت عندك أسئلة عن الواقع الذي شاهدته خارج المعتقلات؟
الأسئلة كثيرة، لكنها متشابهة لأن صراعنا واحد ومشاكلنا واحدة ومشكلتنا الأساس هي واضحة للجميع، وهي تبقى السؤال الكبير، وإن كان هنالك اختلاف في المشارب الفكرية وفي الأولويات، لكن هناك أولوية أساسية، وهي الخلاص من الاحتلال، ويجب أن تكون أولوية كل الفلسطينيين.

هل تغيّرت وجهة نظرك في أساليب النضال تبعاً للتغييرات السياسية والواقعية التي مرّت بها القضية الفلسطينية؟
أساليب النضال دائماً كانت وستبقى أساليب مختلفة، تتساوق مع الظروف الموضوعية للفترة الزمنية ولموازين القوى بين الأطراف، هذا بشكل عام، بالنسبة إلينا موازين القوى باتت واضحة، ونحن نعرف ما هي الأساليب النضالية الملائمة لكل فترة، لكن يجب أن لا تكون فقط شعارات، هنالك أساليب مختلفة، وهذا واضح ويجب أن ندرك جيداً أن هذه الأساليب كلها مشروعة ويتوجب علينا أن نختار الأسلوب المناسب في الوقت المناسب. لا شك أن القضية تمر بأزمة كبيرة. الأفق السياسي مسدود، وليس هناك مفاوضات ولا شيء من هذا القبيل، لكن يقيني هو أن شعبنا قادر على تحريك الأمور. شعبنا الذي بادر على مدى أكثر من سبعين عاماً وخلق أساليب نضاله من لا شيء سوى إيمانه العميق بعدالة قضيته، قادر على ذلك دوماً، لكن الوحدة الوطنية هي لازمة لا يمكن من دونها الانتصار. في السجن تعلّمنا أن قوتنا في وحدتنا. تركت الأسرى خلفي موحّدين لمواجهة الحكومة الجديدة وتهديدات بن غفير. إنهم يستعدّون موحّدين لمعركة حياة أو موت، ومعركة حرية تستنهض كل أبناء شعبنا. وهكذا يجب أن يكون نضالنا مبنياً على الوحدة الوطنية.

أولى كلماتك كانت «قلبي مع الأسرى الحاملين جثثهم على أكتافهم»، ما هي الخطوات الواجب العمل عليها لمساندة الأسرى داخل السجون؟
أولاً، ما يريده الأسرى هو الحرية، الحرية أولاً وقبل كل شيء. قلت ذلك نعم، لأني سمعت من بعض الأسرى أنهم باتوا يتمنّون أن يكونوا كريم يونس، ويقصدون بذلك تحديد مدة المؤبد، حيث إن هنالك العديد من الأسرى المحكومين مؤبدات عديدة من دون تحديد سقف لاعتقالهم، إذ لا مجال لتحديد المؤبد للأسرى من الضفة أو غزة أو القدس. هذا الأسير، المحكوم مؤبداً، يرى أن المستقبل الموعود غير موجود، فلا أمل ولا ضوء في آخر النفق، باتوا يتمنون لو كانوا محكومين 40 عاماً وقد أمضوا 20 عاماً، وهذا مقلق، لأنهم يعتقدون أن لا أمل لهم، هذا القول أقلقني وأزعجني، وهم رفاق وإخوة لي داخل السجون، تركتهم خلفي وأدرك كم أننا في مرحلة صعبة. في البداية، كنا نصنع خطوط الأمل من العدم. الآن، حتى العدم غير موجود. الأسرى يريدون الحرية ولا شيء سوى الحرية. لذا في مثل هذا الظرف، أعتقد أن من واجبنا جميعاً أن نساند الأسرى في كل نضالاتهم، وأن نسعى إلى أن يتحرروا. لا يتحرر الأسرى بالوعود. هنالك حاجة ماسة لتوحيد الجهود الوطنية. حان الوقت لأن تجتمع كل الفصائل حول هدف أساسي وحول أولوية أساسية، هي تحرير الأسرى، وهنالك وسائل معروفة لتحرير هؤلاء.

هل تشعر بالندم؟ وماذا تقول للسجان؟
أيّ ندم؟ عمّ تتحدثون وتجاه من؟ هل سأندم على 40 عاماً قضيتها في السجن أم على ماذا؟ أنا لست نادماً ولن أكون يوماً نادماً، وسوف أبقى كذلك، فهذا لم يكن يوماً في قاموسي أو في تفكيري ولا في أي لحظة منذ اعتقالي. حتى السؤال يبدو غريباً، الأمر لا يتم التداول به لعدم وجوده أبداً.
لا أعتقد أن هنالك ما أقوله للسجان، السجان هو سجان، وهو أراد لنا أن نكون بلا جدوى، أراد إفراغنا من محتوانا النضالي، وتطويعنا وجعلنا عالة على أهلنا وشعبنا وعائلاتنا. أراد لنا أن نكون «أدوات آدمية طيّعة» بين يديه. «أرادوا إخضاعنا، وقد وظّفوا الكثير من العقول لأجل ذلك، لكن خسئوا. استطعنا أن نصنع من معاناتنا بطولات، واحتفلنا من داخل سجوننا بكل أعيادنا وانطلاقاتنا، وحوّلنا السجون إلى مدارس وجامعات. خسئ السجن وخسئ السجّان».