مختلفاً كان العُرس هذه المرّة. العروس عجوز بثوب أبيض ملائكي، مطرّز بالأزرق، فيما شعرها لفّه شال حريري ناعم. أمّا العريس، فقد وصل أخيراً بعد انتظارٍ دام أربعين عاماً. أمام الجموع الغفيرة، وقفت وداد، أمّ ماهر يونس، تزغرد و«تهاهي»، واضعةً خاتماً من الألماس كان لوالد الأخير في خنصره، وهو ما بقي منه عقب رحيله قبل أعوام. ألبست «العروس» ولدها «عباءة العريس»، واضعةً حول عنقه إكليلاً من الزهور الحمراء، قبل أن ترشّ الحضور بالأرزّ والورود احتفالاً بتحرّر ولدها من الأسر، متحدّيةً جنود الاحتلال الذين حضروا إلى منزلها لاستعراض «قائمة المحظورات» منعاً للفرح والاحتفاء. تشي التجاعيد التي التهمت وجه الأم صانعةً ما يشبه الأخاديد العميقة، وعيناها الزرقاوان اللتان يبستا بفعل كثرة البكاء في الليالي الطويلة، بأنها لم تكن تنتظر من شيء سوى هذه اللحظة... لحظة عناق ابنها الذي لم تتمكّن من حضنه طوال 40 عاماً كانت تتنقّل فيها بين 36 سجناً. 40 عاماً كبر فيها ماهر كثيراً بعدما انقطع لقاؤهما به لمّا كان في الخامسة والعشرين. تزوّج أقرانه، وبات لهم أبناء، وصارت نظيراتها من الأمهات جدّات، ومنهنّ من قضت نحبها أصلاً في الانتظار مثل أمّ ابن عمه، كريم يونس، الذي تَحرّر من سجنه قبل أسبوعَين.لطالما جلست عائلة ماهر حول مائدة الطعام مفتقدةً ابنها. لطالما مرّت عليها أعياد وأفراح وأتراح من دونه، فيما كان هو بصحبة رفاقه في الأسر، يدور في حلقة رمادية مفرغة تُعاد كلّ يوم مكثفةً الحصار حوله. بالأمس، انتهت مدّة محكوميته، وخرج إلى الحرية. لمّا سُئلت أمه: «شو أوّل طبخة سيأكلها؟». لم تتردّد، قالت مبتسمة، فيما سالت الدموع من عينيها: «ورق عنب... عملتله ورق عنب». وصل يونس أخيراً إلى بلدته، عارة، في الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948، متوجهاً أوّلاً إلى مقبرة البلدة لزيارة قبر أبيه الذي توفّي وهو في الأسر. جلس أمام ضريحه مخفّضاً رأسه، وراح يقرأ الفاتحة بصمت، ليخبره بعد ذلك أنه تَحرّر أخيراً، ثمّ انتقل إلى منزل العائلة حيث كانت تنتظره جموع غفيرة متحدّية قيود الاحتلال، وهناك حضَن أمه للمرّة الأولى منذ 40 عاماً. على الرغم من القيود المفروضة، والاقتحامات المتواصلة من قِبل عناصر الاحتلال للمنزل، تنفيذاً لتعليمات وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، وصل مئات الفلسطينيين إلى منزل يونس، متَحدّين الوزير الفاشي، ومعانقين «العريس»، خلافاً للتعليمات الإسرائيلية التي قضت بالاقتصار على التسليم باليد، وعدم المعانقة، وعدم رفع الأعلام الفلسطينية، وكذلك الامتناع عن شواء اللحم، على اعتبار أن الدخان المتصاعد من المناقل يُعدّ أيضاً «مظاهر فرحٍ واحتفاء»!
وفي ذروة هذه المشاهد، عادت الذاكرة إلى عام 1983، عندما اعتُقل أبناء العمومة الثلاثة، ماهر وكريم وسامي، بتهمة قتل الجندي الإسرائيلي، أفراهم برومبرغ، وخيانة إسرائيل بالانتماء إلى حركة «فتح»، في وقتٍ كانت فيه عائلة ماهر تتحضّر للاحتفال بزفافه. في مقابلة صحافية معها، قالت الأم وداد: «أنا إنسانة مؤمنة بقضاء الله وقدَره، طالما تمنّيت أن أحضن ولدي كما تفعل كلّ أم. في قلبي فرح لا يوصف، ولكنني لست منفعلة»، مؤكدة أن «الحريّة منقوصة، وستُكتمل بحرية آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية، عندما يعود هؤلاء إلى أحضان عائلاتهم وأمّهاتهم اللواتي صبرن وتحمّلن، ومنهن من توفّيت أيضاً خلال أسر ابنها». أمّا ماهر، فقال في أوّل تصريح له عقب زيارة قبر والده: «نتمنّى الحرية للجميع، وإن شاء الله يفرج عن جميع الأسرى»، مضيفاً أن «أفضل هدية هي طريق الوفاق بين الشعب الفلسطيني... وأن نعيش في الوطن أحراراً».
وردّاً على مضايقات الاحتلال ومحاولاته تنغيص الاحتفاء بحريته، أكّد يونس أنه «على الرغم من سياسات العنجهية والمضايقات، لا يُمكن منع الفرح، فلسطين مغروسة في قلوبنا وعلَمها مرسوم في القلوب، وأيّ محاولات لإخراجها منّا لن تنجح».