القاهرة | قبل أشهر عدّة، كتبت الإعلامية المصرية المقيمة في واشنطن، جيهان منصور، على صفحتها في موقع «فيسبوك»، منشوراً تشتكي فيه من مسؤولي ملفّ الإعلام، بعدما وعدوها بتولّي مسؤولية قناة تُطلَق بالإنكليزية من القاهرة، قبل أن يتمّ تسريحها من دون دفْع مستحقاتها. لكن منصور لم تفقد الأمل في الحصول على فرصتها، التي نالتها أخيراً بإعلان انضمامها إلى شاشة قناة «القاهرة الإخبارية» لتقديم برنامج يُبثّ من واشنطن أسبوعياً على أن تتقاضى أجرها بالدولار. على أن ما قبلتْه جيهان هو عيْنه ما رفضه آخرون، آثروا الدفاع عن استقلاليتهم وأحقّيتهم في العمل من دون قيود، مع الحفاظ على مساحة تواصل بينهم وبين النظام، تحول دون إقصائهم كلّياً من المشهد، كما حدث مع كثير من الإعلاميين، ومنهم دينا عبد الرحمن وريم ماجد، بالإضافة إلى ليليان داوود التي أُبعدت عن البلاد باعتبارها لا تحمل الجنسية المصرية، بعدما أُجبرت القناة المتعاقدة معها على فسْخ العقد، ما عَنى انتهاء إقامتها في مصر. والظاهر أن طريقة احتواء جيهان منصور، عبر منْحها «مساحة تسامح» مقابل التزامها الولاء للنظام والاستجابة لجميع طلباته، سيتمّ استنساخها في جميع القطاعات الفنّية والثقافية، بهدف إعادة تشكيلها بما يلائم سياسات السلطة.ومنذ وصوله إلى الحُكم عام 2014، أدرك الرئيس عبد الفتاح السيسي أهمّية الفنّانين والمثقّفين كإحدى أدوات «القوّة الناعمة» التي جرى توظيفها بشكل جيّد لإسقاط حُكم جماعة «الإخوان المسلمين» عام 2013. ومن هنا، بدأ العمل على صناعة جيل جديد من الداعمين للحُكم العسكري، في وقت سارعت فيه المخابرات إلى الاستحواذ على شركات إنتاج فنّي، وتأسيس موقع «مبتدأ» الذي أَسندت متابعته إلى زوجة اللواء عباس كامل، والتي باشرت بدورها الإشراف على «إذاعة 9090»، حيث تقدّم ابنتها برنامجاً إذاعياً، إلى جانب برنامج تلفزيوني انطلق قبل سنوات قليلة. وتكلّلت رحلة الاستحواذ على الإعلام، بالسيطرة عنوةً على قنوات «سي بي سي» و«الحياة» و«أون»، وغيرها من المحطّات ذات السمعة الجيّدة، في وقت تعطّلت فيه شركات الإنتاج الفنّي لصالح شركة وحيدة أُرغم الممثّلون على التعامل معها، تحت طائلة إجلاسهم في منازلهم من دون عمل، قبل أن يُسمح لها بالدخول في شراكات شكلية مع شركات أخرى لإيقاف السخط المتزايد.
اليوم، يعيد النظام الكَرّة مجدّداً، مستهدِفاً تعطيل مشاريع الشركات المُنافسة، وهو ما حمل المنتِجين على العزوف عن استخدام مواقع التصوير الرسمية، سواء في مدينة الإنتاج الإعلامي أو الاستوديوات التابعة للحكومة. وعلى هذه الخلفية، بدأت السلطات التضييق على الاستوديوات الخاصة بدواعي الحماية المدنية والتراخيص اللازمة، في حملة أسفرت عن إغلاق 7 منها دفعةً واحدة، بعدما كانت تشهد تصوير أعمال درامية لشهر رمضان. ومن هنا، بات بعض الفنّانين يفضّلون الهرب إلى السعودية تجنّباً للمضايقات المتواصلة في مصر، أو سعياً للبقاء تحت الأضواء في ظلّ محاولات إقصاء عدد منهم، وهو ما يدفع السلطات إلى الإيغال في معاقبتهم. وعلى رغم محاولات بعضهم تحقيق توازن ما بين المصريين والسعوديين، وهو ما يتفهّمه الأخيرون، إلّا أن النظام لا يبدي تسامحاً حيال ذلك؛ إذ إن نقيب الممثّلين، أشرف زكي، مثلاً، لم يتمّ التمديد له في منصب رئيس «أكاديمية الفنون» الصيف الماضي، بسبب مشاركاته في «موسم الرياض»، وتعاونه مع رئيس «هيئة الترفيه» السعودية، تركي آل الشيخ، في الاتفاق مع الممثّلين لتقديم عروض مسرحية في المملكة.
هذا التضييق، الذي سيؤدّي إلى تزايد الغضب المكتوم إلى الآن، يوازيه جمود كامل في مجال الثقافة، خصوصاً منذ تعيين الوزيرة الحالية، نفين الكيلاني. الوزيرة القادمة من خلفية أكاديمية كراقصة وأستاذة للباليه، لم تتّخذ أيّ قرار جوهري إلى الآن، بل حتى إطلالاتها نفسها تقتصر على الإدلاء بكلمات مقتضبة، على رغم وجود أزمات عديدة واتّهامات بالفساد. وتُضاف إلى ما تَقدّم، اضطرابات في حركة التعيينات في الوزارة، حيث تنتظر الكيلاني موافقات وتأكيدات أمنية قبل إعلانها للرأي العام، لتجنّب الرجوع عن قراراتها كما حدث عند تعيين رئيس لـ«البيت الفني للمسرح»؛ إذ سُحب القرار آنذاك بعد أسبوع واحد من صدوره من دون إبداء الأسباب. وعلى سبيل المثال، تنتظر الوزيرة توصية الأمن النهائية بشأن إقالة مدير «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي»، أمير رمسيس، من منصبه على خلفية المشكلات التي أثارها في الدورة الأخيرة التي اختُتمت الشهر الماضي، وهو ما يُتوقّع أن يُحسم بحلول آذار المقبل على أقصى تقدير. ويأتي ذلك في وقت تعمل فيه الأجهزة الأمنية على ضمان عدم «الخروج عن النص» من قِبَل المثقّفين المصريين، وهو ما يدفعها إلى فرْض قيود عديدة على دور النشر، تجعلها غير قادرة على العمل في بيئة تنافسية حقيقية، خصوصاً في ظلّ ارتفاع الأسعار وعدم توافر مستلزمات الطباعة.
منذ عام 2013، بدأ العمل على صناعة جيل جديد من المثقّفين والفنّانين الداعمين للحُكم العسكري


أمّا بخصوص «معرض القاهرة الدولي للكتاب»، فإن الدورة المقرَّر انطلاقها الشهر الحالي، لا يُتوقَّع أن تشهد زخماً كبيراً، وهو ما يَرجع إلى تعقيدات الموافقات الأمنية التي طُلبت من دور النشر، ومحاولات تحجيم بعض الإصدارات، في حين أصبح الحديث عن مشكلات مع الرقابة حاضراً لدى غالبية الكتّاب. ويمتدّ هذا الواقع أيضاً إلى السينما، التي تعرقل الرقابةُ على المصنَّفات الفنية العديد من مشاريعها بسبب عدم الموافقة عليها، وآخرها فيلم «القاهرة - مكة» الذي مُنع عرضه في «مهرجان البحر الأحمر» بتوصية من رئيس الرقابة، الذي هدّد بعرقلة أيّ مشاريع للشركة المنتِجة إذا ما عرضتْه السعودية. ولم تسلم نقابة الموسيقيين من محاولات التقييد، إذ بات يُشترط على جميع المطربين الحصول على إذن مسبق للغناء خارج مصر. وعلى رغم أن النقابة ستحصل على مزيد من الرسوم بموجب الشروط المستحدَثة، إلّا أن الهدف الرئيس من هذه الأخيرة هو فرض رقابة كاملة على أنشطة الفنّانين، وتقييدها إنْ لزم الأمر بعقاب رادع، وهو المنع من العمل في مصر.