عندما انتهجت الإمارات سياسة التطبيع الوقح مع العدو الإسرائيلي بعد «اتفاقات أبراهام»، غير عابئة بالمعارضة الشعبية الواسعة في داخل الدولة والخليج والعالم العربي، كانت تلك سياسة مقصودة هدفت إلى تعويد الناس بأقصى سرعة ممكنة على وجود إسرائيل، التي أراد النظام الإماراتي، وما زال، الاختباء تحت مظلّتها الأمنية، كضمان لمستقبله. لكن رياح الأحداث لم تَجْرِ كما اشتهت سفن نظام محمد بن زايد، الذي اكتشف مع غيره من أنظمة الحُكم الخليجية والعربية المطبّعة، علناً أو سرّاً، أن حجم المعارضة الشعبية للتطبيع أكبر بكثير ممّا كان يُتصوّر، وأن كراهية العرب للإسرائيليين راسخة في الوجدان ولا تتزحزح. ثمّ جاء «المونديال» الذي بدت، على وقْع ما أظهره من معارضة شعبية جارفة للتقارب مع العدو، الإمارات وبعض الأنظمة المطبّعة الأخرى، معزولة، ليَبرز هذا الواقع أمام كلّ مَن كانت لديه ذرّة شكّ متبقّية في المشاعر العربية تجاه الإسرائيليين. وبعد ذلك، أتت الحكومة التي أنتجتْها الانتخابات في إسرائيل، لتُوصل أكثر الأحزاب تطرّفاً إلى الحكم، وتُثبت أن التطرّف الإسرائيلي لا حدود له، ولا ينفكّ يتعمّق، كلّما ازدادت التنازلات من الطرف الآخر. ليست للإمارات مشكلة «عقائدية» مع وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بدليل أنه كان من بين أوّل المدعوّين إلى حفلٍ أقامه السفير الإماراتي لدى الكيان، محمد آل خاجة، لمناسبة العيد الوطني للدولة، في تل أبيب، في الثاني من الشهر الماضي، مع السياسي الآخر المتطرّف، بتسلئيل سموتريتش، لكن لا الإمارات ولا غيرها تستطيع أن تذهب إلى احتضان شخصيات من هذا النوع، مثيرة للانقسام داخل كيان العدو نفسه بسبب عنصريتها المفرطة ضدّ العرب. والصوت الإماراتي المرتفع احتجاجاً على اقتحام بن غفير المسجد الأقصى، يحمل مؤشّرات إلى أن أبو ظبي سلّمت بفشل سياسة التطبيع الوقح، وقد تكون في طريق العودة إلى اعتماد سياسة الوجهَين التي تتبعها غالبية الأنظمة المطبّعة، أي الاستمرار في التعاون مع العدو مِن تَحت، و«إدانة» اعتداءاته السافرة في العلن. وللتذكير، فإن سياسة التطبيع الفاحش الإماراتية، كانت قد تجلّت بأكثر صورها استفزازاً لمشاعر العرب، خلال معركة «سيف القدس» التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في أيار 2021 ردّاً على اقتحام حيّ الشيخ جراح في القدس. ففي ذلك الشهر نفسه الذي كان الفلسطينيون يُذبحون فيه على أيدي الإسرائيليين، جال السفير الإماراتي على عدد من الحاخامات، ونال «بركة» رئيس مجلس حاخامات التوراة، شالوم كوهين، فيما كانت مشاريع التعاون العسكري والاقتصادي تُعلَن بشكل شبه يومي.
معالم المراجعة الإماراتية لتلك السياسة، تراكمت في الأيام القليلة الماضية، ومن أبرزها الإدانة الإماراتية السريعة لاقتحام بن غفير المسجد الأقصى، وطلب أبو ظبي وبكين اجتماع مجلس الأمن لبحث هذا العدوان، والأهمّ إرجاء زيارة رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، التي كانت مقرَّرة الأسبوع المقبل إلى أبوظبي، بعد أيام من اتّصال التهنئة الذي أجراه ابن زايد بنتنياهو ودعاه خلاله إلى زيارة بلاده (التأجيل كان بناءً على طلب إماراتي). وجاء عنوان افتتاحية «هآرتس» قبل يومَين: «الحرم أم الإمارات؟»، ليعكس طلباً إماراتياً بأن يقوم نتنياهو بمنع وزيره من اقتحام المسجد الأقصى، لتخلص الصحيفة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي «اختار الحرم على الإمارات»، وهو بذلك يمسّ بـ«اتفاقات السلام مع الدول العربية، ويعرّض أمن إسرائيل للخطر». ومن جهته، يقول الأستاذ الجامعي الإماراتي، عبد الخالق عبدالله المقرّب من ابن زايد، إن «هذه الحكومة الإسرائيلية تضع الدول التي تقيم علاقات مع إسرائيل أمام معضلة حقيقية، فهي حكومة جاءت في انتخابات، لكنها تضمّ متطرّفين، والتعامل معها صعب للغاية».
الإسرائيليون يراهنون على حاجة نظام الإمارات الأمنية إليهم للاستمرار في العلاقة


هل يعني ذلك أن ثمّة فرملة إماراتية للتطبيع، أم أن «السلام» الذي أرادته الإمارات حارّاً سيتحول إلى بارد، كما هي حال دول كمصر والأردن وغيرهما؟ على رغم أن «السلام الحارّ» ثبت أنه غير ممكن شعبياً من ناحية الإمارات، حيث لم يَزر إسرائيلَ سوى 1600 إماراتي منذ التوصّل إلى «اتفاقات أبراهام» في أيلول 2020، مقابل نصف مليون إسرائيلي زاروا الإمارات في الفترة عينها، فضلاً عن أن «مطعم تل أبيب» في دبي أغلق أبوابه بعد عام من افتتاحه بسبب ضعف الإقبال، إلّا أن الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل هو «اتفاق طوعي» أكثر من المعاهدات التي وقّعتها مصر والأردن، وهما دولتا مواجهة، تذرّع قادتهما بأن الخيار الآخر البديل للاتفاقات هو الحرب. وبالفعل، يراهن الإسرائيليون على حاجة النظام الإماراتي الأمنية إليهم للاستمرار في العلاقة، إذ يرى عضو الكنيست عن «حزب الليكود»، داني إيالون، أن الإمارات تحتاج إلى إسرائيل في مواجهة إيران، ولذا، فإنها ستستمرّ في التعاون معها. ويعني ما تَقدّم، بالتحديد، التعاون العسكري الذي تريد أبو ظبي أن يوفّر مظلّة أمنية لنظامها مقابل منْح تل أبيب منصّة خليجية متقدّمة للعمل ضدّ طهران.
لكنّ الإمارات، بحسب ما يَذكر الإعلام الإسرائيلي، تريد أن تمارس نوعاً من التأثير على إسرائيل، يمكنها أن تبيعه في العالم العربي وتحفظ به ماء الوجه، وهذا ما يجعله وجودُ حكومة إسرائيل اليمينية الحالية، مستحيلاً عملياً. وما يحصل الآن هو محاولة من نتنياهو لاستيعاب «الزغل» الإماراتي، من خلال التأكيد لأبو ظبي عبر اتّصالات أجراها مسؤولون في حكومته أنه «يؤيّد بقاء الوضع القائم كما هو في المسجد الأقصى»، في انتظار استفزاز جديد.