بغداد | أحالت الحكومة العراقية، برئاسة محمد شياع السوداني، ضبّاطاً بمراتب رفيعة، إلى هيئة تحقيق تمّ تشكيلها في الانتهاكات التي مارستْها اللجنة السابقة المختصّة بمكافحة الفساد، والمعروفة باسم «لجنة أبو رغيف» بحقّ موظفين ومسؤولين عراقيين سابقين. وجاء ذلك بعدما جرى تجميد عمل اللجنة بقرار قضائي، إثْر افتضاح ممارسة ضبّاطها تعذيباً شديداً بحقّ المتّهَمين، يمكن أن يقارَن بما كان يحصل في «سجن أبو غريب» الشهير، على أيدي الجنود الأميركيين، بل قد يفوقه فظاعة، إذ تُفيد شهادات بعض مَن حلّوا في «سجن أبو رغيف» بتعرّضهم لممارسات متوحّشة، وصلت في حالات كثيرة إلى حدود التهديد بالاغتصاب، واستخدام أقرباء النزلاء وعوائلهم كأداة ضغط وابتزاز وانتزاع اعترافات
أثارت انتهاكات «لجنة أبو رغيف» التي كان رئيس الوزراء العراقي السابق، مصطفى الكاظمي، قد شكّلها برئاسة الفريق الأوّل أحمد أبو رغيف في نهاية شهر آب من عام 2020، لغرض محاسبة المتّهَمين بالفساد، ضجّة كبيرة في العراق وخارجه، خاصة بعدما سلّطت صحيفة «واشنطن بوست» في تقرير لها الضوء على تلك الانتهاكات. فقد تحوّلت اللجنة، مع مرور الوقت، إلى لجنة لتصفية الحسابات السياسية، بحسب ما تقول مصادر سياسية وأمنية. وكانت المحكمة الاتحادية العليا في العراق قد قرّرت إلغاء عمل اللجنة، وذلك لأنها «خالفت أحكام الدستور التي تضْمن حماية حقوق الإنسان»، بينما وجّه رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، بإحالة عدد من ضبّاطها إلى التحقيق.
ويروي رعد، وهو موظّف حكومي، في حديث إلى «الأخبار»، ما شاهده خلال فترة اعتقاله مع والده مدير المصرف الزراعي، عادل عطية خضير، قائلاً: «بقينا أنا ووالدي مغيّبَيْن لمدّة 26 يوماً من دون علم العائلة، وتعرّضنا لتعذيب شديد. وبعدها ذهبتُ إلى المحكمة، أخرجني القاضي بكفالة لأن قضيّتي تتعلّق بتظاهرات كانت تندّد باستبدال مدير المصرف (والده) بمدير آخر كان من المقرّبين للكاظمي». ويضيف أنه «تمّ تلفيق تهمة أخرى، هي تلقّي رشوة، لوالده الذي لا يزال داخل السجن حتى الآن». وبعد شهر من خروجه، تلقّى رعد مكالمة هاتفية من شخص ادّعى أنه ينتسب إلى «لجنة مكافحة الفساد»، وطلب مقابلته بشكل فوري ليكون شاهداً لمصلحة خروج والده من السجن. وبالفعل، تمّ اللقاء، وذهبا معاً بسيّارة الشخص المذكور إلى داخل «المنطقة الخضراء»، حيث جلسا في غرفة أحد الضبّاط. ومن ثمّ بعد وقت قصير، جاء أمر بالقبض عليه مرّة ثانية، وعندما سأل عن السبب أو التهمة، أُمر بالسكوت. ويكمل رعد: «بعدها، نقلوني بسيارة أخرى برفقة ثلاثة ضبّاط من اللجنة إلى الوحدة التحقيقية الثانية لجهاز مكافحة الإرهاب في مطار بغداد الدولي. وأثناء دخولي، شتموني بطريقة بذيئة، ومن ثمّ اقتادوني إلى زنزانة طولها متر ونصف متر وعرضها متر، ولم يكن فيها مغاسل».
تحوّلت اللجنة المختصّة بمكافحة الفساد مع مرور الوقت إلى لجنة لتصفية الحسابات السياسية


وبعد سبعة أيام، عَلم عادل، من خلال منتسب إلى «جهاز مكافحة الإرهاب»، أن ابنه يقبع في زنزانة مجاورة. ويقول رعد، في هذا الإطار، إنه بعد أن رتّب حارس الزنزانة له «حيلة» لرؤية والده من خلال خروجهما في التوقيت نفسه إلى المرحاض، صُدم ممّا شاهده من آثار تعذيب على أبيه، قبل أن يُبلغه الأخير بأنه اعتُقل لاستخدامه كورقة ضغط عليه للاعتراف بتلقّي رشوة قيمتها 8 آلاف دولار. ويضيف: «بعد يومَين، أدخلوني إلى غرفة التعذيب مكبّلَ اليدين ومعصوب العينين، ووالدي أمامي، وبدأوا يضربونني ويقولون لوالدي: هل تسمع صراخ ابنك؟ هل لا تزال ترفض الاعتراف؟». وعندما يرفض الوالد الاعتراف، يهدّدونه بأنهم سيغتصبون ابنه أمام عينيه. وفي النتيجة، ينهار الوالد ويتوسّل إليهم بأن لا يؤذوا نجله، ويقول إنه مستعدّ لأن يوقّع ويعترف بكلّ شيء.
ويسرد رعد، أيضاً، قصص تعذيب وحشي لأشخاص آخرين كان شاهداً عليها، بواسطة الصعق بالكهرباء في مناطق حسّاسة من أجسامهم، و«الفلقة» و«العقرب» و«الدونكي» و«الإيهام بالغرق»، ووضْع الكيس على الوجه إلى درجة انقطاع النفَس. ويضيف: «شاهدتُ رئيس هيئة الاستثمار، شاكر الزاملي، وقد أصيب بشلل رعاشي في أنحاء جسمه من شدّة الضرب. ورأيت أيضاً مدير هيئة التقاعد العامّة أحمد الساعدي وقد كُسر أنفه بسبب الضرب الشديد، والتعذيب اليومي من الساعة التاسعة ليلاً حتى الساعة الرابعة فجراً»، متابعاً: «كما شاهدتُ أحد المدراء العامّين المعتقلين، الذي لا يزال يلبس الحفاض إلى هذه اللحظة، بعد أن أقعدوه على عمود حديد مدبّب حتى بلغ مرحلة النزيف». كذلك يقصّ الشاهد موقفاً يقول إنه حدث أمام عينيه، مع أحد المسؤولين (ر. ح) الذي كان يشاركه الزنزانة، وكيف ابتزّه ضباط «لجنة أبو رغيف» من خلال قولهم له إنهم سيأتون بابنته المتزوّجة إلى السجن ويقومون باغتصابها. وفي موقف آخر، يقول إن اللجنة ابتزّت مسؤولاً آخر (س. ج)، من خلال الذهاب إلى شقّته السكنية، والجلوس مع زوجته وفتْح اتّصال «فيديو» معه وسؤاله: «هل تعرفها؟ هذه زوجتك، سنفعل بها وسنغتصبها إن لم تعترف». وأمّا المستثمِر ياسر الساعدي، فأيضاً ذهبوا إلى بيته وفتحوا كاميرا «فيديو» أمام والدته المسنّة لتشاهد كيف يُعذَّب ابنها، قبل أن تُتوفّى في اليوم التالي.
ويَلفت رعد إلى أنه عندما كان الكاظمي يطلب أشرطة فيديو من داخل السجن، كان يتمّ إلباس المحتجزين ملابس نظيفة وإخفاء آثار التعذيب، لإجراء مقابلات شخصية لهم مع ضابط التحقيق وهو جالس على مكتبه، وكانوا يُلقَّنون ما عليهم قوله. وأمام الكاميرا، يَطرق السجين الباب حتى يأذن له الضابط بالدخول، ومن ثمّ يرحّب به الأخير، ويسأله عن أحواله واحتياجاته. وذات يوم، بحسب رواية رعد، أُمر المعتقلون بالاستيقاظ باكراً، بداعي أن «لجنة حقوق الإنسان» آتية لزيارتهم وتفقّد أحوالهم. وعند اللقاء مع اللجنة المفترَضة، اشتكى أحد السجناء من التعذيب وسوء المعاملة، ليكتشف السجناء لاحقاً أن هذه اللجنة ليست لحقوق الإنسان، وإنّما هي مؤلفة من شخصيات تنتمي إلى «لجنة أبو رغيف»، فيما الشخص الذي اشتكى تعرّض للتعذيب بشكل مخيف ولمدّة يومين. وفي حادثة أخرى، توفّي المعتقَل جواد عبد الكاظم الكرعاوي (54 عاماً)، نائب مدير مطار النجف، بعد اعتقاله بثلاثة أسابيع. وعلى إثر ذلك، وزّع ذووه تقارير فحص الطب العدلي - على وسائل إعلام محلّية -، والتي تفيد بأن وفاته كانت بسبب التعذيب الشديد. كما توفّي مدير شركة تجارة المواد الغذائية، قاسم حمود، بعد التعذيب صعقاً بالكهرباء، وفقاً لمزاعم ذويه، بينما القوّة الأمنية المعتقِلة تقول إنه مات نتيجة تَأثّره بمضاعفات «كورونا».

يسرد رعد قصص تعذيب وحشي لأشخاص آخرين كان شاهداً عليها، بواسطة الصعق بالكهرباء في مناطق حسّاسة من أجسامهم


إزاء ذلك، يلفت عضو «مفوّضية حقوق الإنسان»، علي البياتي، الذي غادر العراق بعد تهديده نتيجة تشكيكه في عمل «لجنة أبو رغيف»، إلى أن «اللجنة منذ بداية عملها كانت غير مريحة، وخاصة بعدما قامت باعتقال أكثر من عشرين شخصاً من دون مذكّرات إلقاء قبض». ويشير البياتي، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «هناك معتقَلين تمّ إخفاؤهم قسراً لمدّة 270 يوماً من دون علم ذويهم»، مضيفاً: «نحن كمفوضية معنيّة بحقوق الإنسان تسلّمنا عشرات الشكاوى من ذوي المعتقَلين حول وجود ممارسات عنف وتعذيب. لكن، للأسف الشديد، الحكومة السابقة قيّدتْنا ورفضت السماح لنا بالقيام بمهمّتنا في التأكّد من وجود حالات تعذيب واعتداءات داخل المعتقلات». ويؤكد البياتي «(أننا) هُدّدنا أكثر من مرّة بأن العواقب ستكون وخيمة إذا لم نترك ملفّ المعتقَلين، ومن ثمّ رُفعت دعوى قضائية ضدّنا. والسلطة السابقة أرسلت قوّة إلى منزلي لغرض اعتقالي، ولكن لحسن حظّي لم أكن في المنزل، وبعدها أُجبرت على ترْك البلد إلى حين انتهاء ولاية الحكومة السابقة». ويعتقد البياتي أن «الصلاحيات التي كانت ممنوحة للفريق أبو رغيف من قِبَل السلطة، تُمكّنه من أن ينقلب على القائد العام للقوات المسلّحة، وأنه كان يتحكّم بالدولة كلّها، ويمارس كلّ أنواع الرعب في حقّ الآخرين»، معتبراً أن «الحكومة السابقة أرادت أن تستهدف جهات سياسية معيّنة، ولم تستهدف جميع الأحزاب المتّهَمة بالفساد». ويستغرب إحجام الجهات الدولية، ممثَّلةً بسفاراتها، ومنها سفارتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، عن التجاوب مع الشكاوى، معتبراً أن ذلك «يثير علامات استفهام كثيرة حول مدى جدّية هذه الجهات في حماية حقوق الإنسان وتعاملها بازدواجية مع هكذا ملفات».
من جهته، يشير أرشد الصالحي، عضو لجنة حقوق الإنسان النيابية، في تصريح إلى «الأخبار»، إلى أن «هناك مساعيَ برلمانية لمعرفة تفاصيل الادّعاءات التي تخصّ تعذيب السجناء والمعتقلين»، بينما تؤكد اللجنة القانونية أنها عازمة على تكثيف جهودها الرقابية للوقوف على مجريات الانتهاكات ضدّ المعتقلين، معتبِرةً تلك الممارسات «خطراً على النظام الديموقراطي في العراق». وتَلفت العضو في مفوضية حقوق الإنسان سابقاً، فاتن الحلفي، بدورها، إلى أن «حكومة الكاظمي كانت تصرّ على عدم معرفتنا بما يدور داخل المعتقَل من تعذيب، وطلبنا منها أكثر من مرّة السماح بزيارة المعتقَلات ورفضت ذلك، لأسباب في وقتها كانت مجهولة، لكن بمرور الوقت كانت أكبر دليل على وجود انتهاكات واعتداءات على المعتقَلين». وتتّهم أطراف سياسية عديدة حكومة الكاظمي بـ«ارتكاب جرائم كبرى» ضدّ حقوق الإنسان. وفي هذا الإطار، يقول المتحدّث باسم «حركة حقوق» (كتائب حزب الله)، علي فضل الله، إن تلك الحكومة «ارتكبت أبشع ممارسات العنف ضدّ الشعب العراقي، وينبغي محاسبتها على كلّ أفعالها المشينة»، معتبراً أن «لجنة أبو رغيف شُكّلت لأغراض سياسية هدفها الابتزاز والنيل من جهات بعينها».