رام الله | تبدو مدينة القدس المحتلّة مُقبلةً، في العام 2023، على سيناريوات سوداوية، عنوانها تسريع وتيرة الاستيطان، وتصعيد سياسة الإحلال العنصري، بتزكية ورعاية، بل وقيادة، من الحكومة الإسرائيلية الفاشية الجديدة، التي تقترب من استلام السلطة بعد نيلها الثقة الأسبوع الجاري. وخَطت الجماعات الاستيطانية، أمس، خطوة أولى متقدّمة على طريق إنفاذ تلك السيناريوات، باستيلائها على أرض «الحمرا» بالغة الأهمّية في منطقة العين في بلدة سلوان، فيما يَتوقّع الخبراء في الشؤون الاستيطانية تكثيف العمل على مشروع الدمج الكامل بين القدس الغربية والقدس الشرقية، بما يجعل إمكانية الفصل مستقبلاً مستحيلة عملياً، ويكرّس بالتالي «يهودية» المدينة و«تبعيّتها» للكيان الصهيوني
استولى عشرات المستوطِنين، صباح الثلاثاء، تحت حماية شرطة الاحتلال، على قِطعة أرض ذات أهمية بالغة تسمّى «الحمرا» في منطقة العين في بلدة سلوان في القدس المحتلة. وأفاد الناشط في سلوان، يعقوب الرجبي، «الأخبار»، بأن عناصر الشرطة انتشروا منذ ساعات الصباح في المكان، ووفّروا الحماية للمستوطِنين الذين استولوا على القِطعة البالغة مساحتها قرابة 10 دونمات، مبيِّناً أهمية هذه الأخيرة بالإشارة إلى كونها تُحاذي عين ماء سلوان القريبة من المسجد، وتقع في صُلب مخطّطات الجمعيات الاستيطانية التي تسعى إلى السيطرة عليها. ولفت الرجبي إلى أن الأهالي تعرّضوا لاعتداءات من قِبَل قوات الاحتلال أثناء محاولتهم التصدّي للمستوطِنين، حيث حوصِروا ومُنعوا من الوصول إلى المكان واعتُقل العديد منهم. وأوضح الناشط المقدسي أن «الحمرا» تعود ملكيّتها إلى دير الروم الأرثوذكس، وتولّت عائلة سمرين زراعتها والمحافظة عليها منذ نحو 75 عاماً، مضيفاً أن المستوطِنين زعموا أن الكنيسة الأرثوذكسية قامت ببيع الأرض لهم، قبل أن يستولوا عليها ويسيّجوها ويقيموا غرفاً عليها ويمنعوا الفلسطينيين من الاقتراب منها، بالتوازي مع نصْب جنود العدو كاميرات مراقبة عند مدخلها.
وتُعدّ «الحمرا» أهمّ قطعة أرض في سلوان من النواحي التاريخية والأثرية والدينية، كونها تقع جنوبي المسجد الأقصى، أسفل حيّ وادي حلوة. وبحسب الباحث في قضايا القدس، رضوان عمرو، فهي مثّلت جزءاً من النظام المائي لعين سلوان التاريخية، التي كانت بالأصل عبارة عن بِركتَين عظيمتَين لتجميع مياه العين والأقصى لخدمة سكّان المدينة. ويلفت عمرو إلى أن «الأرض والبِرك كانت لها علاقة وطيدة بالوجود النبوي في جنوب المسجد الأقصى، وتحديداً بمعجزات الشفاء التي أتى بها النبي عيسى عليه السلام قرب عين سلوان، وبوابة القدس اليمانية التي دخل منها الرسول إلى القدس ليلة الإسراء والمعراج، كما لها ارتباط بوجود نبي الله أيوب في السفح الجنوبي للأقصى». وتُعتبر بلدة سلوان من أبرز المناطق المستهدفة من قِبل الجماعات الاستيطانية، التي تسعى منذ سنوات للاستيلاء على البيوت والأراضي فيها، مدفوعةً بمزاعم توراتية حول وجود «إرث يهودي» في البلدة، التي تطلق عليها تلك الجماعات اسم «مدينة النبي داوود»، فيما يؤكّد مختصّون في التاريخ والآثار كَذِب هذه المزاعم، ويقولون إن الكشوفات الأثرية لم تُثبتها.
يودّع المقدسيون العام الجاري بمشهد قاتم، ينبئ بسوداوية ما يَنتظرهم في العام المقبل


وشهدت سلوان ومدينة القدس على العموم، أخيراً، العديد من صفقات تسريب الأملاك والعقارات المقدسية إلى الجمعيات الاستيطانية، علماً أن معظم تلك الأملاك يعود إلى الكنيسة الأرثوذكسية، على غِرار المناطق المشمولة بـ«صفقة باب الخليل» في البلدة القديمة من المدينة. ويوضح مدير الخرائط في «جمعية الدراسات العربية»، خليل التفكجي، أن «الاستيلاء على هذه الأرض جزء من صفقة باب الخليل التي أبرمتْها الكنيسة الأرثوذكسية مع الجمعيات الاستيطانية، وتمّ بموجبها بيع العديد من العقارات في ساحة عمر بن الخطاب»، مبيّناً، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الحمرا وبقيّة المناطق المشمولة بالصفقة المذكورة، تقع ضمن الحوض المقدّس، الذي تحاول إسرائيل السيطرة عليه بشكل كامل». وتعود «صفقة باب الخليل» إلى عام 2004، وأميطَ اللثام عنها عام 2005، لينكشف تأجير 3 أملاك تابعة للكنيسة للجمعية الاستيطانية «عطيرت كوهانيم»، وهي: فندقا «البتراء» (بدأت الجماعات الاستيطانية، مطلع الشهر الجاري، هدم جدران أثرية منه تمهيداً لجعله مقرّاً لها، بعد أن استولت عليه في آذار الماضي) و«الإمبريال» في «ساحة عمر بن الخطاب» في منطقة باب الخليل، أحد الأبواب الرئيسة لبلدة القدس القديمة، وقصر المعظمية في باب حطّة شمال المسجد الأقصى.
هكذا، يودّع المقدسيون العام الجاري بمشهد قاتم، ينبئ بسوداوية ما يَنتظرهم في العام المقبل من مخطّطات ومشاريع استيطانية تتهدّد ما تبقّى من مدينتهم، خاصة مع بدء العدّ التنازلي لولادة حكومة يمينية متطرّفة، تضع الاستيطان في القدس، وطرْد المقدسيين وتهجيرهم، ومن ثمّ الإحلال في الضفة الغربية، أولوية قصوى لها. وإذا كان عام 2022 قد وُصف بالأسوأ والأصعب على القدس وأهلها، نتيجة تصاعد عمليات الهدم والترحيل وسحْب الهويات، وتزايُد إقرار المشاريع التهويدية والاستيطانية، وتنكّر الاحتلال بشكل كامل للحقوق الفلسطينية كافة، فإن التوقّعات للعام القادم تبدو أكثر تشاؤماً. وشهدت السنة الفائتة زيادة في عمليات هدم المنازل، بذريعة عدم الترخيص؛ إذ هدم الاحتلال 211 منزلاً ومنشأة في المدينة المحتلّة، وسلّم أوامر هدْم أحياء كاملة وبنايات متعدّدة الطوابق، على غرار البناية التي تضمّ 12 وحدة سكنية في وادي قدوم في بلدة سلوان، و116 منزلاً في حيّ البستان في البلدة، و54 منزلاً في حي الطور، ليبلغ إجمالي عدد أوامر الهدم عام 2022، 984، فيما تمّ تقديم 521 طلب تراخيص للبناء إلى بلدية الاحتلال، رُفضت 509 منها لأسباب سياسية بحتة.
ويتهدّد الهدم 22 ألف منزل في القدس، ما يعني أن نحو 124 ألف مقدسي مهدَّدون بالتهجير القسري. كما أن 1380 مقدسياً في حيّ الشيخ جراح وبطن الهوى، يواجهون خطر التطهير العرقي، بعدما أصدرت محاكم الاحتلال قرارات تقضي بطردهم من منازلهم لصالح الجمعيات الاستيطانية، في حين استولت بلدية الاحتلال وما تُسمّى «سلطة الطبيعة» و«دائرة أراضي إسرائيل» وجمعيات استيطانية على نحو 15 ألف دونم من أراضي القدس، لإقامة مشاريع استيطانية وتهويدية، وشقّ طُرق وجسور وأنفاق. وصادقت حكومة العدو، أيضاً، على إقامة قرابة 18 ألف وحدة استيطانية في المدينة، منها ما تمّ البدء بتنفيذه، وشمل مطار قلنديا، تلة الطيارة، بيت صفافا، التلة الفرنسية، صور باهر، جبل المكبر، أم طوبا، الولجة، العيسوية، شعفاط، بيت حنينا، جبل المشارف، الشيخ جراح، كرم المفتي، وسلوان.
وحول ما ينتظر القدس خلال الفترة المقبلة في ظلّ الحكومة اليمينية الجديدة، يقول التفكجي إن «إسرائيل تسير بسياسة واضحة، وهي خطوة بخطوة نحو إنهاء قضية القدس بشكل نهائي، بحيث لا يبقى شيء للتفاوض عليه على الأرض، وهذا يعني تنفيذ المشروع الصهيوني في القدس مدعوماً من الحكومة والمؤسّسات والجمعيات الاستيطانية». ويشير التكفجي إلى أن إسرائيل تُواصل العمل على تنفيذ برنامج واضح يقوم على الدمج الكامل بين القدس الغربية والقدس الشرقية، وذلك من خلال بناء مستوطَنات جديدة، وتوسيع مستوطَنات قائمة، وإقامة بنية تحتية شاملة وكاملة، بحيث تصبح عملية الفصل مستحيلة، إضافة إلى إقامة البؤر الاستيطانية داخل الأحياء الفلسطينية، من أجل إنهاء فكرة التجمّعات الفلسطينية المتواصلة جغرافياً. ويلفت الباحث الفلسطيني إلى أن إسرائيل تعمل ضمن برنامج واضح هو «التطويق والاختراق والتشتيت»، بمعنى تطويق التجمّعات والأحياء الفلسطينية بالمستوطنات، ومن ثمّ اختراقها بالبؤر الاستيطانية، وتشتيتها بتحويلها إلى فسيفساء متناثرة وسط الأحياء اليهودية. ويرى أن «الظروف مؤاتية جدّاً لحكومة الاحتلال لتنفيذ مخطّطاتها في القدس المحتلّة، ولذا، فهي ستعمل على تسريع مشاريعها، لتكريس الواقع القائل إن القدس غير قابلة للتقسيم، وإنها بمثابة القلب للجسد اليهودي وهي عاصمة للدولة العبرية الواحدة، في ظلّ انغماس العالم العربي في التطبيع، وانشغال العالم وأوروبا بالحرب في أوكرانيا».