أعلنت «قوى الحرية والتغيير» في السودان، في الـ16 من الجاري، تَوصّلها إلى اتّفاق مع المكوّن العسكري، يتضمّن «جميع الآليات المطلوبة لإنهاء الانقلاب وإقامة سلطة مدنية ديموقراطية استناداً إلى وثيقة نقابة المحامين السودانيين»، بحسب ياسر عرمان، القيادي في المجلس المركزي لتلك القوى. ويتكوّن الاتفاق، الذي سُمّي بـ«الإطاري»، من مرحلتَين، ستتركّز ثانيتهما على تطوير النسخة الأوّلية بمشاركة معنيّين و«قوى ثورية»، وذلك في أربعة مجالات هي: العدالة والعدالة الانتقالية، الإصلاح الأمني والعسكري، «اتفاق جوبا للسلام»، وتفكيك النظام السابق في غضون شهر، أي بحلول نهاية العام الجاري.
بين حسم المرحلة الانتقالية وتمديدها
تشير ديناميات التوصّل إلى الاتفاق الإطاري، إلى قبول أطراف الأزمة الرئيسين حلّاً وسطاً، يؤجّل عملياً المطالب عالية السقف خصوصاً لناحية خروج المكوّن العسكري من المرحلة الانتقالية، ويعيد السودان إلى مسار التطبيع الدولي اقتصادياً وسياسياً بعد انقلاب 25 تشرين الأوّل، ويفسّر تغيير المكوّن العسكري لهجته تجاه مكوّنات نظام عمر البشير والقوى الإسلامية (من دون أن يعني ذلك تقديم قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ضمانات بتغيير استخدامه لهذه المكوّنات كأوزان مقابِلة لـ«قوى الحرية والتغيير»، تَفوقها قدرة على الحشد الانتخابي المُوجَّه مستقبلاً). وكان سعى البرهان إلى إبعاد اتّهامات وُجّهت إليه بدعم الإسلاميين والمناورة بهم، وهو ما كرّره بعد إعلان الاتفاق بحديثه عن مساعي هؤلاء لترتيب انقلاب عسكري «لعودتهم إلى السلطة» (علماً أن القوات المسلّحة بقيادة البشير وصِلاته الإقليمية والدولية كانت الطرف الأكثر فاعلية وتأثيراً في العلاقة مع القوى الإسلامية، وليس العكس)، متّهِماً، على نحو غريب، «الشيوعيين وحزب البعث العربي» بالسعي إلى «استخدام الجيش للسيطرة على السلطة في السودان»، على رغم خروج «الشيوعي» من مظلّة «قوى الحرية والتغيير»، وتزايُد عزلته حتى في الأوساط «الثورية»، وضآلة قاعدته الشعبية بالأساس، ما يعزّز فرضية لجوء البرهان إلى استخدام أساليب «فاشية» ضدّ المعارضة الفعلية والمحتمَلة على السواء.
في المقابل، رأى مراقبون أن اقتراح «الحرية والتغيير» تقسيم الاتفاق إلى مرحلتَين، استهدف «الحفاظ على وحدتها، لأن أعضاءها لديهم مواقف مختلفة إزاء العملية السياسية والمفاوضات مع الجيش». ولذا، تَقرّر تأجيل القضايا الأربع الرئيسة في التسوية إلى وقت لاحق، ريثما تكون تلك القوى قد نظّمت نقاشاً موسّعاً حولها، يُفترض أن يشمل «جميع مَن تضرّروا منذ انقلاب البشير في 30 حزيران 1989». إلّا أنه على رغم الحماسة التي تُبديها مجموعات المكوّن المدني إزاء الاتفاق الإطاري، فإنه يظلّ حتى اللحظة مجرّد تمديد آخر للمرحلة الانتقالية، وتفريغ متدرّج للمطالب «الثورية» التي تصاعدت مع الذكرى الأولى لانقلاب 25 تشرين الأول، في ظلّ تزايُد الضغوط الدولية للعودة إلى «المسار الديموقراطي» قبل استئناف دعم الخرطوم اقتصادياً، وتكاثف التحرّكات الخارجية لـ«مجلس السيادة» ولا سيما نحو الكيان الإسرائيلي، فضلاً عن تصريحات منسوبة لنائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عن رغبته في التقارب مع الولايات المتحدة واعتباره زيارته لموسكو (شباط 2022) «خطأً فادحاً».
جاءت الخطوط العامّة للاتفاق العتيد فضفاضة وبعيدة عن مقاربة الأزمة الداخلية المستحكِمة على الأرض


خلافات من الداخل
تعرَّض الاتفاق لانتقادات قوية من قِبَل أحزاب معارِضة وحركات قاعدية، وأبرزها «لجان المقاومة في الخرطوم»، والتي حذّرت من أن هذه التسوية تعني أن «العدالة لن تُنجَز لصالح ضحايا الحُكم العسكري»، وأنها - في تقدير سليم يتّسق مع سلوك البرهان وحميدتي منذ خلع البشير - تُوفّر مساحة لحركة المكوّن العسكري، متعهّدةً بمعارضة أيّ تسوية سياسية «تعيد إنتاج الشراكات مع الجيش والأطراف التي أُسقطت بعد عزل البشير». وعلى مقلب الحركات المسلّحة، وصف مالك عقار، عضو «مجلس السيادة» ورئيس «حركة تحرير السودان الشعبية - شمال» في إقليم النيل الأزرق، المُوقِّعة على «جوبا للسلام»، الاتفاق بأنه «(مجرّد) فرصة ضئيلة ستزيد من تعقيد المشهد السياسي»، لافتاً إلى تهميش أحد أبرز عناصر المرحلة الثانية والمتمثّل في اتفاق السلام، مؤكداً رفضه أيّ تسوية لا تتضمّن هذا الأخير، في انتقاد غير مباشر لتصريحات عرمان (20 نوفمبر)، العضو السابق في حركة «عقار»، والذي دعا إلى مراجعة «جوبا للسلام» وتجديده لنيل دعم واسع له، مع الحفاظ على المكاسب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ووضع أجندة موحّدة لشرق السودان.

تهميش الأزمة الداخلية
جاءت الخطوط العامّة للاتفاق العتيد فضفاضة وبعيدة عن مقاربة الأزمة الداخلية المستحكِمة على الأرض. فقد شهد إقليم دارفور، منتصف تشرين الثاني، أحداث عنف قبلي بين المسيرية والرزيقات (قبيلة حميدتي)، قُتل في خلالها نحو 50 سودانياً، وتَشرَّد الآلاف من سكّان الإقليم، في ما أنذر بأن المساس بالوضع الراهن والهشّ الذي أرساه «اتفاق جوبا»، يعني بالضرورة تفاقُم العنف في مناطق أخرى خارج دارفور والنيل الأزرق. والواقع أن طيفاً واسعاً من القوى السياسية لا يزال يدعم استمرار اتفاق السلام (وعدم تعديله راهناً)، كما أن أغلب المجموعات المنضوية في هذا الأخير ارتضت بالتسوية مع نظام البرهان من دون المُضيّ قُدُماً في تطبيق أجندة الإصلاحات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، ما يعني أن الدفْع نحو تغيير هذا الوضع من دون توفير أساس ديموقراطي حقيقي قائم على إرادة شعبية عامّة (الانتخابات النيابية والرئاسية)، يعني إعادة إنتاج الأزمة بين المعارضة المسلّحة وتلك السلمية، على نحوٍ ستكون فيه للعسكر الكلمة الفصل في نهاية المطاف. يُضاف إلى ما تَقدّم أن توسيع نطاق «العدالة والعدالة الانتقالية» ليشمل جميع الانتهاكات المرتكَبة منذ وصول البشير إلى الحُكم قبل أكثر من ثلاثين عاماً، بدا بمثابة تَوجُّه هُلامي، لم توضع له أُسس واقعية إجرائية وسياسية يمكن البناء عليها.

حميدتي... «الشرطي الطيب»
يتناقض موقف حميدتي الداعم للاتفاق الإطاري، مع متطلّبات تنفيذ الأخير، لا سيما لناحية تطبيق العدالة والعدالة الانتقالية، سواءً بحق حميدتي أم أغلب قادة قوات «الدعم السريع». كما أن المقترحات المرتقَب صدورها عن الجيش
بخصوص أجندة المرحلة الثانية من الاتفاق، لن تخرج في الغالب عن تحديد جدول زمني ممدَّد قدْر الإمكان، ورهْن الإصلاح العسكري والأمني بوجود مؤسّسات منتخَبة، وتأجيل ملفّ «جوبا للسلام» إلى ما بعد إيجاد ترتيبات مع المعارضة المسلّحة، واعتبار المرحلة الثانية المرتقَبة تمهيداً لعملية سياسية تالية عام 2023.