تنطلق، اليوم، فعاليات «لقاء أستانا» بنسخته التاسعة عشرة في العاصمة الكازاخية نور سلطان، على وقْع تصعيد تركي جوّي مقترن بتهديدات بتقدّم برّي مستقبلي ضدّ مناطق «قسد» في شمال سوريا وشرقها. والظاهر أن أنقرة أرادت استباق اللقاء، الذي تشارك فيه وفود رفيعة المستوى من الدول الضامنة الثلاث (روسيا، وإيران، وتركيا)، إلى جانب وفود من الحكومة السورية والمعارضة ودول محيط سوريا (لبنان، العراق، والأردن)، بتعزيز أوراقها الميدانية وإعادة تثبيت خطوطها الحمراء، في ظلّ ما يُتوقّع من أن تفتح هذه النسخة الباب على متغيّرات جديدة، خصوصاً ربطاً بمشروع تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق
اللقاء الذي كان يُنظر إليه، قبل العملية العسكرية الجوّية التركية، على أنه سيشكّل مساحة لاختبار النوايا بين أنقرة ودمشق، ووضْع أرضية صلبة لبناء خطوات الثقة بين الطرفَين، يأتي مرّة أخرى مُحمَّلاً بملفَّي إدلب و الأكراد العالقَين، وسُبل حلحلتهما، بعد سلسلة لقاءات أمنية سورية - تركية لم ترتقِ بعد إلى مستوى اللقاء السياسي المباشر. ويأتي ذلك على الرغم من الخطوات «التقاربية» الميدانية التي شهدتها سوريا خلال الفترة الماضية، سواءً التسهيلات الكبيرة التي أتاحتها دمشق لإعادة اللاجئين والنازحين، أو الدعم التركي لقرار مجلس الأمن 2642 الذي يقدّم دعماً ملموساً لمشاريع «التعافي المبكر» ويزيد من كمّية المساعدات الواردة عبر خطوط التماس (من دمشق إلى المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة) على حساب تلك الواردة عبر الحدود (من معبر باب الهوى)، أو وضْع أنقرة اللمسات الأخيرة قُبيل افتتاح معابر دائمة لإدخال المساعدات من جهة، وتسهيل عودة اللاجئين من جهة أخرى.
والظاهر أن العملية الجوّية التركية، والتي استهدفت بالتزامن 89 موقعاً شمال العراق وشمال سوريا وشرقها، أرادتها أنقرة استعراضية، وهو ما تُظهره المساحة الجغرافية الكبيرة التي شملتها، وتَركّزها على مناطق حدودية بعيدة، فضلاً عن اختراق الطائرات التركية أجواء تسيطر عليها الولايات المتحدة وروسيا لمسافات محدودة. ويبيّن كلّ ذلك أن تركيا حاولت التزام الخطوط الحمراء الروسية والأميركية، وتلافي أيّ مواجهة مباشرة مع موسكو وواشنطن اللتين كانتا وضعتا «فيتو» طيلة الأشهر الماضية على أيّ تفجير عسكري للمنطقة. وإذ نفى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أيّ تَواصل مع الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي جو بايدن، قُبيل العملية، فإن البيان السابق عليها، والصادر عن القنصلية الأميركية في أربيل، كشف أن ثمّة تنسيقاً أمنياً وعسكرياً مسبقاً بين أنقرة وواشنطن، فيما أنبأ استخدام مجال جوّي تسيطر عليه روسيا بأن تَواصلاً مماثلاً جرى فعلاً مع موسكو. وعلى خلفية ذلك، اتّهمت وسائل إعلام تركية، الجانب الأميركي، بتسريب معلومات إلى القوى الكردية عن الهجوم.
اخترقت الطائرات التركية أجواء تسيطر عليها الولايات المتحدة وروسيا لمسافات محدودة


ورفَع إردوغان، عقب العملية، من حدّة تصريحاته السياسية، معيداً، في حديث خلال عودته من قطر، اتّهام روسيا بأنها «لم تفِ بوعودها بتطهير المنطقة (من قوات سوريا الديموقراطية) وفق اتفاق سوتشي، على الرغم من أننا أخبرناهم بأننا لن نقف مكتوفي الأيدي، وبأننا سنتّخذ خطوات ضدّ الإرهابيين هناك». وتُعيد هذه التصريحات إلى الأذهان الخلاف التركي - الروسي حول الشمال السوري، حيث تقتضي «اتفاقية سوتشي» أن تقوم أنقرة بحلّ ملفّ إدلب وفتْح طريق حلب - اللاذقية (m4) مقابل حلحلة ملفّ مناطق انتشار الأكراد. ومع تكثيف طائرات سورية وروسية غاراتها على مواقع عدّة في ريفَي إدلب واللاذقية تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، ومناطق حدودية مع تركيا قرب معبر باب الهوى في إدلب، بدا أن موسكو أرادت، في المقابل، تحريك ملفّ إدلب، والتذكير بالمماطلة التركية المستمرّة فيه، خصوصاً بعد أن أفسحت أنقرة المجال لتمدّد «النصرة» في مناطق جديدة في ريف حلب.
وبالعودة إلى تصريحات إردوغان، فقد هدّد الأخير بالانتقال إلى هجوم برّي لم يحدّد موعده. إلّا أن مصادر ميدانية تحدّثت إلى «الأخبار»، أكدت أنه لم تشهد خطوط التماس أيّ تحرك برّي يوحي باستعدادات لعملية من هذا النوع، مرجّحةً اقتصار الهجوم على العمل الجوّي، في ظلّ التعقيدات التي تُواجه أيّ تحرّك برّي، سواءً الموقف العسكري السوري الرافض لأيّ توسّع تركي جديد، ومطالبة دمشق أنقرة بالانسحاب من المناطق التي تسيطر عليها، أو موقف كلّ من روسيا والولايات المتحدة المناوئ أيضاً للتحرّك البرّي. وفي السياق نفسه، ذكرت مصادر كردية، في حديث إلى «الأخبار»، أن تطمينات جديدة تلقّتْها قيادة «قسد» من واشنطن بعدم وجود أيّ عملية برّية في الوقت الحالي، مضيفة أن هذه التطمينات ساعدت في رسْم خريطة انتشار عسكرية لمقاتلي «قسد»، تضْمن تخفيض الخسائر البشرية جرّاء الغارات الجوّية قدْر المستطاع في الوقت الحالي، في انتظار متغيّرات جديدة قد يفضي إليها «لقاء أستانا»، وستشكّل بدورها، في حال تَحقّقها، معضلة بالنسبة إلى «قسد».