يستمرّ العدو الإسرائيلي في المراوحة في المربّع نفسه إزاء الأوضاع في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، في ظلّ فشل متزايد تُظهره عملية «كاسر الأمواج» التي أُطلقت في نيسان الماضي، من أجل كسْر إرادة المقاومة لدى الفلسطينيين، من دون أن تفلح في ذلك. وعلى رغم تصاعُد تلويح بعض مسؤوليه باجتياح واسع لمناطق الضفة على غِرار عملية «السور الواقي»، إلّا أن الكيان لا يبدو في هذا الوارد عشيّة انتخابات «الكنيست»، بالنظر إلى الأثر الجسيم الذي سيَلحق بمُطلِقي اجتياح كهذا في الوقت الراهن. ومن هنا، تنحصر خيارات العدو في ما يقوم به حالياً من عمليات تنكيل وخنْق وعقاب جماعي، وهو ما لا يبين إلى الآن أنه يأتي بالأثر المطلوب منه، بل على العكس مما تَقدّم، إذ تَظهر نتائجه عكسية تماماً، وفق الصورة التي جلّتها العملية الفدائية ضدّ حاجز شعفاط، والتي حملت دلالات بالغة في نواحيها كافة. عملية لن تكون الأخيرة على الأرجح، وخصوصاً ضدّ هذه الحواجز التي تحوّلت إلى هدف ثابت للمقاومين، على خلفيّة ما يمارَس عليها يومياً من عمليات إذلال وتضييق على الفلسطينيين
في انتظار عملية «شعفاط 2» وما سيليها من عمليات ضدّ الاحتلال، يواصل الفلسطينيون انتفاضتهم في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، مقابل سياسة قمع واعتداءات إسرائيلية يومية. الانتفاضة التي لا تريد إسرائيل الإقرار بها، وتستمرّ في وصْفها بـ«موجة التصعيد»، لا يبدو أنها ستهدأ أو تتراجع، فيما الإجراءات الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة عبر الوكلاء، لا تفلح في تغيير المسار والنتيجة: حلقة مفرغة لا يغادرها الجيش الإسرائيلي من خيارات محدودة ومكلفة، بينما المقاومة تتعزّز وتتصاعد لدى الفلسطينيين، أفراداً وجماعات. وإذ تُصعّب الموقفَ الإسرائيلي حقيقةُ ظروف المرحلة التي لا تسمح بخيارات دراماتيكية، فضلاً عن كلفة هذه الأخيرة البشرية والمادّية ونتائجها المحدودة، فإن حافزية الفلسطينيين لا تفتأ تتعاظم في مواجهة تغوّل الاحتلال، ومساعيه لتجريف حقوقهم وهويّتهم. وفي خضمّ ذلك، يمكن إيراد الآتي:
أولاً: اعتمدت إسرائيل، منذ شهر نيسان الماضي، ما تسمّيه عملية «كاسر الأمواج»، وهي التسمية المعتمَدة عبرياً لعمليات القمع والحصار والتنكيل والاعتقال في الضفة الغربية المحتلّة. الهدف من هذه العملية هو إيقاف العمليات الفلسطينية وإضعاف الحافزية لتنفيذ المزيد منها، إلّا أن المفارقة أنها آتت نتائج عكسية، من دون ما يضمن أن خيارات أخرى كانت لتجلب نتائج مغايرة. باختصار، أجّلت إسرائيل التصعيد الشامل، ولم تُلغِه، والفروق بين المطلبَين كبيرة جدّاً.
ثانياً: ثبت أن نشر جزء كبير من وحدات الجيش الإسرائيلي مباشرة في الضفة، لم يفلح في تحقيق ما أراده العدو، وهو ما تظهره الأرقام والمعطيات المُسجَّلة على مرّ الأشهر الماضية، وفق الآتي:
* سجّلت 34 عملية إطلاق نار في الضفة والقدس في الشهر الماضي وحده، أي بمعدّل أكثر من مرّة في اليوم الواحد، ما يعني زيادة بنسبة 47 في المئة عن 23 عملية إطلاق نار في شهر آب، وكذلك زيادة بنسبة 126 في المئة عن 15 عملية في تموز.
* وفقاً لمعطيات جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، سُجّل ما مجموعه 212 هجوماً بزجاجات حارقة في الشهر الفائت، مقارنة بـ172 في آب، أي بزيادة قدرها 23 في المئة، في حين شهد شهر تموز 113 عملية من هذا النوع. كذلك، سَجّل الميدان في أيلول إطلاق 53 قنبلة أنبوبية، مقارنة بـ39 في آب، و27 في تموز.
* لم تقتصر العمليات على منطقة من دون أخرى في الضفة، بل شملت تقريباً كلّ مدنها وبلدتها وطرق مواصلاتها والحواجز الإسرائيلية التي تقطّع أوصالها، مع أن مدينتَي جنين ونابلس بقِيتا الأكثر سخونة، ومنطلقاً لتنفيذ عمليات ضدّ الاحتلال.
* تطلّبت «كاسر الأمواج» نشْر أكثر من 30 كتيبة في الضفة، مضافةً إليها قوات النخبة الموكّلة بالتوغّل في المناطق الفلسطينية والمخيمات، في ما يعدّ ضرورياً لتطبيق سياسة المعاقبة الجماعية. إلّا أن ذلك سهّل على المقاومين إيجاد أهداف لضربها من خلال كمائن معدّة مسبقاً، أو عمليات إطلاق نار كثيفة، بما أدّى إلى خسائر بشرية في صفوف الاحتلال في أكثر من عملية توغّل أخيراً.
ثالثاً: معظم العمليات التي ينفّذها الفلسطينيون في الأشهر الأخيرة، هي لشبّان صغيري السنّ نسبياً، وغير منتمين إلى فصائل، ولا توجد إشارات دالّة مسبقاً لدى الاحتلال على إمكان أن يكونوا مرشّحين لتنفيذ هجمات، وهو ما يصعّب عملية «كاسر الأمواج»، ويفاقم فشلها. والجدير ذكره، هنا، أن واحدة من أهمّ السياسات المتّبعة لدى العدو، هي العمليات الاستباقية - الوقائية، التي تستند إلى معلومات استخبارية مسبقة، أو إلى تقديرات استخبارية تتعلّق بالمقاومين أو بمَن هم مرشّحون لتنفيذ هجمات. لكن مع فشل هذه النماذج والقوالب في تحديد المنفّذين حالياً، والذي يرجع في جزء منه إلى كوْن الدافع متوافراً لدى معظم أبناء الفئة العمرية الشبابية، يواجه الاحتلال سيناريو تَحوّل التصعيد إلى انتفاضة كاملة، لا يزال يعمل على تفاديها.
رابعاً: تكاثر السلاح الناري في الضفة، بات واحداً من أهمّ عوامل الانتفاضة الجديدة. والحديث هنا يتعلّق بمستويَين اثنين: أوّلهما متّصل بعمليات تهريب من الحدود الشرقية للضفة - على رغم القيود الإسرائيلية والأردنية-، بما يشمل أسلحة نارية متنوّعة يستهدف مرسِلوها خدمة الفعل المقاوم، أو مجرّد تحقيق أرباح مادّية؛ وثانيهما مرتبط بالتصنيع المحلّي للبنادق، وخصوصاً في مدينتَي جنين ونابلس. ولعلّ ما يميّز هذا الأخير، أنه بات أكثر دقّة ونجاعة ممّا كان عليه، وهو متوفّر «غبّ الطلب» لكلّ مَن يريد تنفيذ عمليات، في حين أن تكلفته محدودة قياساً بالأسلحة الرشاشة المعيارية.
تطلّبت «كاسر الأمواج» نشْر أكثر من 30 كتيبة في الضفة


خامساً: ضعف السلطة الفلسطينية، والذي يُعزى، في جانب رئيس منه، إلى اقتصار تعاطي الاحتلال معها على الأخذ الأمني بلا عطاء مقابل، وهو ما لا يُعدّ مستغرَباً، بالنظر إلى أن السلطة، بالنسبة لإسرائيل، هي كيان موجود لخدمة الاحتلال والنيابة عنه في قمع الفلسطينيين ومطارَدة المقاومين، بالتالي فإن التعامل معها لا يجب أن يتجاوز البعد الأمني. وفوق ذلك، يتّسم هذا التعامل بالازدراء الذي يكاد يكون مطلقاً، في ما يمثّل عاملاً ثانياً من عوامل هشاشة رام الله. أمّا العامل الثالث والأهمّ، فهو أن السلطة باتت في نظر الفلسطينيين وكيلة عن الاحتلال، بل وعميلة له، وهو توصيف لم يتشكّل فقط لدى الجمهور على مرّ السنوات الماضية، بل وأيضاً لدى جزء يٌعتدّ به من أفرادها: موظفون في مؤسّساتها، وأفراد وضباط في أجهزتها الأمنية على اختلافها. ومما عزّز تلك الصورة هو أن قمع المقاومين كان يبرَّر سابقاً باعتبارهم مخرّبي خيار التسوية مع الاحتلال، إلا أنه مع توقّف العملية السياسية، وانتفاء المفاوضات وفشلها، باتت ملاحقة المقاومين عملاً لا يمكن تفسيره إلا من منطلق العمالة، خصوصاً مع جنوح الكيان نحو مزيد من التطرّف، وهو ما يتجلّى في اعتبار أي مسؤول يتلفّظ بكلمة الضفة الغربية بدل «يهودا والسامرة، خائناً؛ باعتبار الأولى تعني وجود أرض متنازع عليها، فيما الثانية تعادل «أرضاً إسرائيلية» يجري العمل على استردادها من «المحتل الفلسطيني». إضافة إلى ذلك، باتت «اليسارية» عاراً يتهرّب منه المسؤولون الإسرائيليون، وهو ما يدفع بعضهم إلى الإفراط في التعبير عن يمينيّته من أجل كسب رضى الجمهور، بما يشمل إنكار وجود الفلسطينيين وحقهم في الحياة. واقعٌ كهذا لم يدَع للسلطة محلّاً لدى الفلسطينيين، إذ لم يعُد لها مبرّر أو جدوى، وفقدت شرعيتها مع فقدان علّة وجودها: سحب ما أمكن من الحق الفلسطيني عبر التفاوض مع المحتلّ، وهو ما يشجّع الفلسطينيين على تجاوزها، والاندفاع بلا رادع إلى مواجهة العدو وفقاً للخيار المتاح، في حين تتراجع دافعية أفراد الأجهزة الأمنية إلى قمع المقاومين.
سادساً: يبقى أمام المحتلّ الإسرائيلي خيار متطرّف، يهدّد به منذ أشهر، من دون أن يتجرأ على تنفيذه، وهو عملية «سور واقي» ثانية، على غرار عملية «السور الواقي» عام 2002، عبر اجتياح المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة. لكن ما يحول دون ذلك أكثر بكثير مما يَدفع إليه، وفي المقدّمة تقديرات الخسائر البشرية في صفوف العدو. وعلى رغم التلويح بأن الاجتياح الكلّي بات وشيكاً، وإنْ بالتدريج، إلا أنه ليس ثمّة إلى الآن مَن هو مستعدّ للدفْع في هكذا اتجاه، سواء في المؤسّسة السياسية أو تلك الأمنية، خاصة عشية انتخابات «الكنيست»، إذ من شأن اجتياح واسع أن يقلب المشهد الانتخابي لغير صالح أي جهة تتحكّم بطاولة القرار.