تونس | يتواصل مثول قيادات حركة «النهضة» أمام «فرقة مكافحة الإرهاب»، في ما يتعلّق بقضية تسفير التونسيين إلى بؤر النزاع قبل حوالى عشر سنوات. وعلى رغم أن فتْح هذا الملفّ بوجْه الحركة لا يبدو خالياً من بُعد سياسي، بالنظر إلى الصراع المحتدم في البلاد بين الرئيس قيس سعيد ومُعارضيه، والذي لا يستثني أيّاً من أدوات المواجهة، إلّا أن ذلك التطوّر يَظهر رائقاً لكثيرين على أساس ما يحُمّلونه للحركة من مسؤولية - أخلاقية في الحدّ الأدنى - عن «الحجّ الجهادي» من تونس. واللافت أن استراتيجية التشكيك والتوهين التي دائماً ما اتّبعتها «النهضة» في مواجهة هكذا تحدّيات، لم تَعُد بالفعّالية نفسها اليوم، أخْذاً في الحسبان فقدان الحركة الكثير من أدوات السلطة والسيطرة
مَثَل رئيس حزب «النهضة»، راشد الغنوشي، ونائبه علي العريض، والقيادي في الحزب محمد الفريخة، وقياديون «نهضَويون» آخرون، أمام «الوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب» في قضية تسفير التونسيين إلى بؤر النزاع، والتي تتجاوز ملفّاتها الـ600 صفحة، وفق ما تفيد به مصادر قضائية. وفيما تتّهم هيئة الدفاع عن الغنوشي، الرئيس قيس سعيد، باستغلال ملفّ التسفير سياسياً ضدّ خصومه، فإن المعطيات المتوافرة بهذا الشأن تبدو شحيحة، بالنظر إلى السرّية التي تحيط بها الوحدة المذكورة عملها. وبمعزل عمّا إذا كانت التحقيقات ستثبّت على الشخصيات المُشار إليها تهمة التورّط في «دعم الإرهاب» أم تدحضها، فالواضح أن ذلك التطوّر يلقى ترحيباً لدى كثيرين ملّوا سنوات الحصانة التي كانت تتمتّع بها «النهضة» وتحميها من أيّ مساءلة عمّا تقوم به، بما يشمل مساعدتها في ترحيل عدد كبير من «الجهاديين»، قبل نحو عشر سنوات، إلى سوريا والعراق وليبيا وغيرها.
إزاء ذلك، تحاول «النهضة» تصوير الاتهامات المُوجَّهة إليها على أنها محاولة من قِبَل النُّخبة الفرنكوفونية العلمانية لوصْمها بالإرهاب، وهو ما لا يَخرج عن سياق التشكيك والتوهين الذي اعتمدته الحركة إزاء جميع القضايا التي واجهتْها. فعلى سبيل المثال، عندما سُرِّب حديث للغنوشي يقول فيه إن «النهضة اخترقت الأمن الذي صار تحت تَصرّفها، ولكنها لم تتمكّن من فعل ذلك مع الجيش، وهو غير مضمون الولاء»، خرجت قيادات الحركة لتُدافع بأن كلام زعيمها أُخرج من سياقه. وعلى المنوال نفسه، عندما جرى تحميل «النهضة» مسؤولية أخلاقية ومعنوية عن اغتيال القياديَّيْن اليساريَّيْن، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، بالنظر إلى التحريض الذي كانت قادتْه ضدّهما، شكّكت الحركة في وقوع اغتيال سياسي من الأساس، مُتهمةَ عائلتَي الراحلَين بتدبير مقتلهما، على رغم عديد الأدلّة على تصفيتهما، وفي مقدّمها التحذير الوارد من سفارة أجنبية إلى وزير الداخلية آنذاك، علي العريض، من قُرب وقوع اغتيال سياسي يستهدف قيادات يسارية، وهو ما تجاهَله العريض.
وكانت سبقت اغتيالَ بلعيد والبراهمي حملةٌ ضدّها تولّتها قيادات «النهضة» ونوّابها في المنابر الإعلامية والمساجد، حيث جرى اتّهامهما بالكفر والإلحاد وتهديد «الحُكم الإسلامي»، كما جاء على لسان رئيس الحكومة آنذاك ونائب رئيس الحركة حمادي الجبالي. ولدى وقوع الاغتيال، لم تدّخر قيادات «النهضة» جهداً في تحويله إلى واقعة جنائية، واتّهام كلّ مَن يتحدّث بخلاف ذلك بـ«المتاجرة بدم» الراحلَين، وهو ما أدّى إلى تنويم الملفّ لسنوات. ولكنّ انفجار النزاع لاحقاً بين «حيتان القضاء»، أخْرج إلى العلن فضيحة الوكيل العام المتعهّد بالملفّ، والذي سمّته ودعمتْه الحركة، واتّضح تَورّطه في إخفاء أدلّة والتغاضي عن حقائق محدَّدة، الأمر الذي أسفر عن طرده من القضاء، وانكشاف ما يُعرف بالجهاز السرّي لـ«النهضة»، والمُكلَّف بجمع المعلومات عن المعارضين والتنصّت عليهم ومراقبتهم وتصويرهم.
إثر ذلك، تعرّضت استراتيجية «النهضة» الإعلامية، القائمة على تضعيف أيّ ملفّ يُفتح في وجهها، لاهتزازات كبرى أفقدتْها الكثير من مصداقيّتها. ومع هذا، تُعيد الحركة تفعيل الاستراتيجية نفسها اليوم، على رغم العديد من الحُجج التي تثبت مسؤوليتها الأخلاقية عن تسفير آلاف الشباب إلى مناطق النزاع، للقتال في صفوف تنظيم «داعش». وقد تَمثّل أوّل تطوّر ذي دلالة في السياق المذكور، في ظهور تنظيم «أنصار الشريعة» - الذي صُنّف لاحقاً إرهابياً وجرى حظره لارتباطه بـ«داعش»/ فرع المغرب الإسلامي -، لأوّل مرّة في مدينة القيروان عام 2012، حيث رُفعت راياته السوداء بتأمين وحماية من وزارة الداخلية. وفيما سُلّطت ضغوط دولية على «النهضة» للقبض على زعيم الحركة المعروف بـ«أبي عياض»، حاضَر الأخير في «جامع الفتح» في قلب العاصمة تونس، وغادره وسط حماية أمنية، بينما كانت السلطات تدّعي ملاحقته ومحاولة اعتقاله. وتَحوّل «أبو عياض»، لاحقاً، إلى قيادة تنظيم «داعش» في ليبيا، والذي أعلن في مرّات عدّة مسؤوليّته عن عمليات إرهابية نُفّذت في تونس وراح ضحيّتها عشرات الجنود والأمنيين.
يضاف إلى ما سبق، أن ما عمدت إليه «النهضة»، إبّان تَسلّمها وزارة الداخلية، هو حلّ «جهاز الاستخبارات وسلامة أمن الدولة»، بدعوة من حقوقيين موالين لها، ما سهّل تحوُّل البلاد إلى فناء خلْفي للتخطيط للتسفير والإرهاب. وبهذا، فقدت تونس آنذاك المعطى الأمني، ولم تكن لديها أيّ رؤية واضحة عن مسارات آلاف الشباب المغادرين نحو وُجهات معلومة، فيما لم تقدّم «النهضة» التي كانت تقود الحكومة أيّ ردود مقنعة حول ذلك، علماً أن قطْعها العلاقات كلّياً مع الجانب السوري، أدّى إلى إفقادها أيضاً المعلومة الاستخباراتية من الجهة المقابلة. كذلك، خُصّصت المساجد بأغلبها للدعوة إلى «الجهاد»، وتورَّط أعضاء في الحركة في الحثّ على الالتحاق بصفوف المقاتلين في سوريا، حتى إن القيادي «النهضَوي»، وزير الشؤون الدينية آنذاك نور الدين الخادمي، والنائب عنها والقيادي فيها الحبيب اللوز، أعلنا بوضوح مناصرتهما للتوجُّه للقتال في سوريا وليبيا. أمّا الذين عادوا من هناك بداية من عام 2019، فلم تتوافر معلومات حولهم، كما لم تجرِ أيّ إيقافات لهم، وهو ما أثار حالة من الريبة والفزع.