شهدت الأزمة العراقية، أمس، انفراجة كبيرة، بإعلان زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، سحب مسلحيه وأنصاره من «المنطقة الخضراء» في بغداد ومن بقية المدن العراقية. موقف الصدر المقتضب والحازم خلّف ارتياحاً كبيراً على المستويين الشعبي والسياسي في البلاد التي كانت حتى ظهر أمس الثلاثاء، تترنح على حافة الحرب الأهلية، إلا أنه فتح باباً واسعاً من التكهنات حول الخطوة التالية ومآلات الأزمة السياسية المعقدة وسبل حلها، فضلاً عن مواقف الأطراف، التي اتخذها الصدر «عدوةً»، من خطوته الأخيرة.وظهر مقتدى أمس، في مؤتمر صحافي في النجف، أمهل فيه أنصاره ساعة واحدة للانسحاب تماماً من أمام البرلمان وإلغاء اعتصامهم، مقدماً اعتذاره للشعب العراقي الذي اعتبره «المتضرر الوحيد مما يجري». وانتقد «ثورة التيار الصدري»، كما انتقد «ثورة تشرين» من قبل. وإذ أكد أن «أفراد الحشد الشعبي لا علاقة لهم بما يحدث»، فقد شدد على أن اعتزاله السياسة «اعتزال شرعي بناءً على موقف المرجع الديني». وإلى جانب ما تقدم، سجلت ثلاث نقاط لافتة في موقف الصدر الأخير، هي التالية:
أولاً: تحييد «الحشد الشعبي» وتبرئته من التورط في الاشتباكات التي امتدت منذ مساء الإثنين حتى ظهر الثلاثاء، على عكْس أداء الآلة الإعلامية الخليجية التي ركزت تغطيتها على اتهام «الحشد» بكل رصاصة تطلق في «المنطقة الخضراء» وغيرها، لزوم تعبئة الأجواء الشعبية ضده.
ثانياً: إعلانه الالتزام بموقف المرجعية، وهو أمر نادر الحصول، خصوصاً أنه كان رد سريعاً على بيان المرجع كاظم الحائري، بالقول «يظن الكثيرون، بمن فيهم السيد الحائري، أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم... كلا إن ذلك بفضل ربي ومن فيوضات الوالد الذي لم يتخل عن العراق وشعبه». وأضاف في بيانه ذاك: «على الرغم من استقالته (الحائري)، فإن النجف هي المقر الأكبر للمرجعية (...) على الرغم من تصوري أن اعتزال المرجع (الحائري) لم يكن بمحض إرادته، وما صدر من بيان عنه كان كذلك أيضاً».
ثالثاً: انتقاده «ثورة التيار الصدري»، واعترافه الضمني بأن أنصاره قد تسببوا بإرعاب الناس من خلال استخدامهم السلاح والعنف، مشبهاً الأمر بـ«ثورة تشرين» التي انتقدها سابقاً.
إزاء ذلك، تثمن مصادر في «الإطار التنسيقي»، في حديث إلى «الأخبار»، موقف الصدر الذي أبعد شبح الحرب الأهلية عن العراق. وتشير إلى أن الجو العام في البلاد كان يتوقع «انزلاق الأوضاع نحو إراقة الكثير من الدماء البريئة بسبب الأداء غير المسؤول الذي أقحم الشارع والسلاح في الخلافات السياسية»، وتدعو إلى «العودة إلى السياقات السياسية والدستورية لحل الخلافات وتقريب وجهات النظر بين الأفرقاء»، معتبرةً أن «الوقت مناسب الآن أكثر من أي وقت مضى من أجل العودة إلى الحوار البناء لتجاوز تداعيات ما جرى».
مكونات «الإطار التنسيقي» تواصل التشاور في ما بينها للوصول إلى قرار نهائي


وإذ تنفي المصادر أن تكون الكرة الآن في ملعب «الإطار التنسيقي» وحده، فهي ترى أن الأفرقاء جميعهم اليوم أمام عدة خيارات: إما حل البرلمان، أو استكمال الاستحقاقات الدستورية، وبعدها الذهاب إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. كما تؤكد أن «لا مشكلة لدى الإطار في حل مجلس النواب والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وهذا الموقف قديم ومتكرر ومعلن، لكن لا يمكن إجراء الانتخابات المبكرة في ظل حكومة مصطفى الكاظمي، ولا وفق القانون الانتخابي الحالي، ولا بإشراف مفوضية الانتخابات الحالية»، مضيفة أنه «قد يكون حلاً تسووياً أن يصار إلى تشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها إقرار قانون انتخابي جديد وتعيين مفوضية جديدة للانتخابات، وبعد ذلك تحدد موعداً لإجراء الانتخابات النيابية المبكرة، وهذا ما كان التيار الصدري لا يعطي فرصة مناسبة لتحقيقه».
وتلفت المصادر إلى أن مكونات «الإطار التنسيقي» تواصل التشاور في ما بينها للوصول إلى قرار نهائي بشأن الخطوة التالية، في ظل تمسك الصدر باعتزال العمل السياسي بشكل تام. وتتابع أنه إن بقي الصدر ملتزماً بقراره، فهذا يرجح فرضية استكمال السياقات الدستورية من قبيل انتخاب رئيس للجمهورية وتسمية رئيس للحكومة، مؤكدة في الوقت نفسه «حرص الإطار على عدم عزل التيار الصدري على رغم قرار زعيمه». وفي الاتجاه نفسه، يعتقد المحلل السياسي، المقرب من «الصدري»، يحيى السوداني، أن «كل الظروف الآن أصبحت متاحة لعقد جلسة للبرلمان وتشكيل الحكومة»، جازماً أن «الصدر لن يتدخل في تشكيل الحكومة أبداً».
من جهتها، وفي قراءتها لأحداث اليومين الأخيرين وصولاً إلى موقف الصدر الأخير الذي اعتبرته «مفاجئاً نوعاً ما»، تقول مصادر سياسية عراقية إن زعيم «التيار الصدري» بالغ في مطالبه السياسية، كما أنه بالغ في «تشويق» الرأي العام والخصوم على السواء حيال الخطوات التي يحضرها، وهو كان يرغب في أن تشكل خطوته الأخيرة في الشارع ضغطاً على «المحكمة الاتحادية العليا» من أجل قبول الدعوى القضائية لحل مجلس النواب، إلا أن المحكمة أعلنت، صباح أمس، أن «كافة المحاكم ومنها المحكمة الاتحادية لم تنظر بالدعاوى المعروضة عليها (...) بسبب حظر التجوال العام وتعطيل عمل مؤسسات الدولة كافة» عقب الأحداث والاشتباكات التي شهدتها بغداد. وتعتبر المصادر ذاتها أن هذا السبب، إضافة إلى اتخاذ التحرك الجماهيري شكلاً عنيفاً، وما تبع ذلك من «رسائل تحذيرية» تلقاها الصدر من أكثر من طرف عراقي، كل ما تقدم شكل دافعاً قوياً للرجل لوضع حد للفصل الأحدث من المواجهة.