مقلقة الكتابة عن غسان كنفاني، وتشغل البال، فعن من سأكتب، ولمن؟ عن هذا الرجل الذي أعجب أشد الإعجاب بمنجزه ربطاً بسيرة حياته التي تتقاطع مع معظم الفلسطينيين في تلك المرحلة.فهذا الشعب كان مكلوماً بأرضه، مصاباً بالبحث عن جدوى من البقاء، وإذ به يقوم من بين الخيام ليعلن ولادته الجديدة نحو ثورة فلسطينية ستغيّر، بعد وقت وفي أواسط الستينيات من القرن الماضي، حياة الفلسطينيين، وتحولهم من لاجئين إلى ثوار وفدائيين يقاتلون من أجل العودة إلى أرضهم.
ثورة جمعت الجميع، والتفّت حولها الجموع في العالم، فنالت حصتها من التضامن والنضال، فخاض غمار هذه الثورة رجال من البلاد العربية، كما من اليابان والصين وباكستان وغيرها من دول العالم الحرة.
علم هؤلاء جميعهم، أن ثورة يقودها أبناء قرى ومدن مهجرين، لا يملكون أي شيء سوى الخيمة التي صار هدم عمدانها والعيش في العراء أهون من استمرار الانكسار.
كان غسان كنفاني واحداً من هؤلاء الذين هدموا الخيمة وخرج في العراء ليرتدي طريقه نحو فلسطين التي لم يعد إليها بجسده، إنما محمولاً على الأكف نحو مقبرة شهداء فلسطين في بيروت وفي كل مكان.
هدم غسان للخيمة، كان بالتمرد وتسلق الجبال، كان يكتب عن فلسطين، ويكتب عن الضياع، فأمّ سعد اللاجئة في مخيم برج البراجنة، بطلة روايته الشهيرة، هي بطلة في حياته الشخصية وحياة عائلته الصغيرة والكبيرة التي تحمل دمه حتى اليوم. ومثلها حامد في «ما تبقّى لكم» وحتى زكريا السيّئ.
في قراءة غسان كنفاني، ليس هناك متّسع للاستمتاع بالأدب وحرفته فقط، فالكتابة لديه، بقدر ما هي موثّقة للأحداث ومجترحة لها، هي أيضاً أداة للانتصار على الهزائم الداخلية والخارجية لدى الفلسطيني والعربي المكسور منذ النكبة وحتى اليوم. فالدم وحده لن ينتصر، والكتابة وحدها لن تنتصر، ولا حتى الرموز وتقديسها، والاستعانة بمهاراتها في النضال، فالنصر الذي جرّب غسان أن يمدّنا به، مدلوله ثابت، التكامل في العمل، أن نناضل، ليس بما أوتينا من قوة، بل أن يكون نضالنا سلوك حياة، أن يكتب الكاتب، ويلحّن الموسيقي، ويرسم الفنان، ويعالج الطبيب، ويبني المهندس، ويدافع المحامي، وينظف جامع القمامة، والجميع الجميع، يقاتل في اللحظة التي ستأتي في وجه المستعمر، وفي وجه الفاسد وفي وجه المطبّع وفي وجه من أدخلوا قضيتنا في حالة عطالة مميتة.
في قراءة غسان كنفاني، ليس هناك متّسع للاستمتاع بالأدب وحرفته فقط، فالكتابة لديه، بقدر ما هي موثّقة للأحداث ومجترحة لها، هي أيضاً أداة للانتصار


هؤلاء، لم يقبل بهم غسان، ولم يقبل بهم الشهداء، فاغتالهم الاحتلال، لأنهم عنوان مستقبل حتمي بالنصر، لذا لجأ للجم حياتهم الجسدية، ليدفع بغيرهم نحو الواجهة الأمامية، فصاروا واجهة الاستسلام والهزيمة، وواجهة متقدّمة لتعليم شعب تحت الاحتلال أن ينكسر. لكنّ الاحتلال، وإن برع في التخطيط والقتل، إلا أنه فشل تماماً في وقف تمدّد الشعب الفلسطيني نحو الحرية، وحتى وإن كان بعض هذا الشعب اليوم في حالة كمون كما هو ظاهر، إلا أن الصرخات تعلو رويداً رويداً، وما محاولة تضييق العيش على الشعب الفلسطيني إلا محاولة الخاسر البائس، حين يظن أو يقتنع بأن تجويع شعب أو إذلاله يمكن له أن ينهيه.
غسان كنفاني، لم ينبه إلى هذه الأيام، غسان كتب ماضينا وحاضره، لكن جدوى الكلام لديه، كان حصارنا في المعنى الفلسطيني لوجودنا، وحريتنا استناداً إلى مفعولنا اليومي في الحركة والحرية التي ندفع ثمنها كأبناء لهذه البقعة من العالم التي يقول البعض، هناك من لم يسمع بها في العالم. هذا صحيح، هناك من لم يسمع بنا في العالم، لكننا نواجه عدواً يعرفه العالم تماماً، لذا، فإن إنصاف التاريخ يوماً، سيكتب أن شعباً من بلد يقع كجسر للأرض، قاتل حتى الأبد وانتصر.
سيكتب التاريخ ما يشاء، وقد لا ينصفنا، سيكتبه الأقوياء حتماً، وقد نكون نحن في حقيقتنا الضعفاء، إلا أن الحق الذي هو نحن بالنسبة إلى قضيتنا، سيهزم الحقيقة ويكسرها، ويغلق عليها أبواباً شرّعتها الأنظمة والسلطات التائهة أمام أبناء فلسطين في المخيمات وفي الداخل، ولعل ما حصل في مناقشة رسالة الماجستير للأسير زكريا زبيدي في جامعة بيرزيت، هو طريقي التي اتّبعتها لكتابة هذه المادة عن غسان كنفاني، فالأسير المغيّب خلف معتقلات الاحتلال، حضر، والشهداء النائمون في مقابر الشهداء، يحضرون كل يوم في يومياتنا، لنتأكد أن الطريق إلى فلسطين مفتوحة.