[مقال لغسان كنفاني نُشر في الصفحة الأخيرة من مجلة «الحرية» في 13 حزيران 1966 العدد 315]

كم من المواطنين العرب، خلال الأيام القليلة الماضية، ردّ إلى البائع زجاجة كوكاكولا ورفض، دون إلزام ولا جزاء، شربها؟
تقول القليل؟ أقول لك كلا!
كثيرون هم الذين فعلوا ذلك، أكثر بكثير ممّا تتصور: لقد تحققت من الأمر بنفسي، وقال لي أكثر من بائع إن أكثر من زبون في اليوم الواحد يرد له زجاجة الكولا، ويرفض أن يشربها...
بل أكثر من ذلك: رأيت بائعين وضعوا صناديق الكولا خارج محلاتهم وردوها إلى الموزّع كما استلموها...
تقدّم خطوة أخرى واسأل:
- أي نوع من الناس هذا الذي يرد زجاجة الكولا؟
وسوف يجيئك جواب واحد:
- الناس البسطاء، عمّال وطلاب ورجال ذوو ملابس متواضعة.
بكلمة أخرى: الشعب.
هناك أناس لا تعرفهم أنت، ليس بوسعك أن تتصورهم لأن مدى شاسعاً من الغربة يمتد بينك وبينهم، ولكنهم يستطيعون أن يكونوا، دون أن نعلم، بشراً أكثر إخلاصاً لأنفسهم منك، بل أيضاً أكثر إخلاصاً للوطن الذي أخذت منه أنت أكثر ممّا أعطاهم.
أولئك، أمامك ووراءك وفوقك، ينطقون ضمير هذا الوطن في غيابك
... ويرفضون حين يقفون أمام أنفسهم أن يضعوا على أفواههم زجاجة الدم الداكن.. نعم، بينهم وبين أنفسهم، بوحي هذه العلاقة العريقة، الراسخة، التي تستعصي على الارتشاء، القائمة في أعماقهم قبل أن تولد أنت، والتي ستظل بعد أن تمضي.. بينهم وبين شيء اسمه: قضية.
نعم، بلا إلزام ولا جزاء.. لأن الضمير الوطني الذي تحكي عنه زوراً يعيشونه، وهم يعرفون أكثر ممّا تعرف أن هذا الضمير فوق الإلزام، ولكنه أيضاً أكبر من الجزاء.
وبوسعك أن تشرب أنت ما شئت، وبوسع غيرك أن ينام على بيع الدم الداكن في زجاجات، ولكنهم هم الذين سيرفضون، وهم الذين سيزيدون يوماً بعد يوم وهم أخيراً الذين سينتصرون على الزجاجة الكريهة...
تلك التي تشج جبين العرب الآن..
..يا صديقي!

(غ. ك)