الجزائر | تفاجأ الجزائريون ببرقية نشرت على موقع وكالة الأنباء الرسمية، في الثالث من الشهر الجاري، تكشف عن دعوة لـ«لمّ الشمل»، مكتفيةً بالتحدّث عن كون «رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، هو رئيس جامع للشمل انتُخب في أوّل تداول ديموقراطي للسلطة في تاريخ البلاد»، وأن «يده ممدودة للجميع... للأشخاص والأطراف التي لم تكن تتّفق في الماضي... ما عدا الذين تجاوزوا الخطوط الحمر أو أداروا ظهرهم لوطنهم». وفُسِّرت البرقية على أنها جسّ لنبض المعارضة والرأي العام معاً، قبل طرْح مشروع سياسي محتمل للمصالحة، على رغم غموض الإعلان الذي لم يتضمّن أيّ تفاصيل حول صيغته السياسية أو حتى المستهدفين الرئيسين منه. وبدا أن المشروع أريد له أن «يطبخ على نار هادئة»، في انتظار الإعلان الرسمي عن تفاصيل أكثر في شأنه في ستينية عيد استقلال الجزائر التي تصادف في 5 حزيران المقبل. ولم تتّضح الرؤية في شأن معالم هذا المشروع السياسي المحتمل، على رغم المشاورات التي أجراها تبون، خلال الأيام الماضية، وإعلانه، على هامش زيارته إلى أنقرة، أن مبادرة «لمّ الشمل» التي أطلقها «ضرورية من أجل تكوين جبهة داخلية متماسكة».وفي قراءة للمشهد السياسي الجزائري، فإن أوّل خصم (زمني) لتبون، هم الرافضون أصلاً للمسار الانتخابي منذ الإعلان عن استحقاقات 12 كانون الأول 2019، أي الحراك الشعبي الذي اعتبر، حينها، أن «النظام جدَّد جلدته بعد استقالة الرئيس الجزائري السابق، عبد العزيز بوتفليقة»، وأن «تنظيم انتخابات قبل تنحي جميع المسؤولين المحسوبين على النظام السابق هو استمرار لنفس النظام». ويضمّ هذا الطيف من المعارضة، مواطنين واصلوا المسيرات الاحتجاجية، وكذلك سياسيين من رؤساء أحزاب، كرئيس «حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» محسن بلعباس، ورئيسة «حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي» زبيدة عسول، ورئيس «حزب الاتحاد الديموقراطي الجزائري» (غير المعتمد) كريم طابو، وشخصيات مثل الإعلامي فضيل بومالة، والمحامي مصطفى بوشاشي وغيرهم. غير أن هذه المعارضة، هي «الأقلّ ضرراً» على السلطة الحالية، كون الأخيرة، تمكّنت، خلال سنتين ونصف سنة من عهد الرئيس الحالي، من التحكّم في معارضي الداخل، وأوقفت المسيرات الشعبية أمنيّاً، وزجّت ببعض النشطاء السياسيين في السجن، على غرار رئيس «حزب الحركة الديموقراطية الاجتماعية»، فتحي غراس (أفرج عنه).
ويعتقد مراقبون أن مشروع المصالحة، قد لا يكون سياسياً بالضرورة، وإنّما اقتصادي، بتوجّهه إلى المسؤولين ورجال الأعمال المحسوبين على الرئيس السابق (أغلبهم في السجن)، وأن الهدف من «التفاوض» مع هؤلاء هو «استرجاع الأموال المنهوبة»، على رغم أن هذا الخيار مستبعد، نظراً إلى التصريحات المتكرّرة لتبون، والتي يدين فيها ما صار يطلق عليهم «العصابة»، وآخرها حديثه، خلال لقاء مع ممثّلي الصحافة الجزائرية، في نيسان الماضي، عن طاقم حكومته الذين «لم تلوّثهم العصابة». وعليه، فإن أيّ يد ممدودة لمَن اعتُبروا، حتى الآن، «من ناهبي أموال الشعب»، من شأنها أن تفتح على الرئيس جبهة صراع هو في غنى عنها، فضلاً عن كون أغلب المعنيّين نُطقت في حقّهم أحكام قضائية نهائية، فيما تعتبر استفادتهم من إجراءات عفو أو تخفيف للعقوبة مساساً باستقلالية العدالة.
أكد تبون أن مبادرة «لمّ الشمل» ضرورية لتكوين جبهة داخلية متماسكة


وإذا كانت الفئتان السابقتان مستبعدتان: الأولى، أي معارضة الداخل، تتحكّم فيها السلطة، وقد لا تحتاج إلى أن تتصالح معها، لما تقتضيه المصالحة من تقديم لتنازلات، والثانية لكون ضررها السياسي أكبر من منفعتها الاقتصادية، فإن الأنظار توجهت إلى «معارضة الخارج». وتتكوّن هذه الفئة الثالثة من معارضين ينشط أغلبهم عبر المواقع الإلكترونية، ويكتفي بعضهم بتوجيه انتقادات إلى السلطة، فيما يذهب آخرون إلى نشر معلومات ووثائق تورّط مسؤولين فيها، على غرار المدوّن والناشط أمير بوخرص (المدعو أمير ديزاد)، والديبلوماسي السابق محمد العربي زيتوت، وآخرين. وإن كانت السلطة قد نجحت في توجيه «ضربات» لهذه المعارضة، عبر تحويل اثنين منها: محمد بن حليمة، ومحمد عبدالله، من إسبانيا إلى الجزائر، وإيداعهما السجن، غير أن بقية النشطاء لا يزالون يشكّلون «صداعاً في رأسها». وقد يحول دون هذا الاحتمال، مضيّها بعيداً في محاربتها لمعارضي الخارج، عبر تصنيف التنظيمَين اللذين ينتمي إليهما أغلب هؤلاء النشطاء، وهما حركة «الماك» الانفصالية و«رشاد» الإسلامية، بـ»الإرهابيَّين»، وإدراج 16 اسماً على قائمة الإرهاب، وإصدار مذكّرات توقيف دولية ضدّهم. وهنا، يمكن التساؤل عمّا إذا كانت عبارة «ما عدا الذين تجاوزوا الخطوط الحمر أو أداروا ظهرهم لوطنهم»، الواردة في برقية وكالة الأنباء، تنطبق على «العصابة» من مسؤولي النظام السابق، أو على معارضي الخارج.
وإن كان المعنيون بـ«لم الشمل»، ليسوا محدَّدين بعد، فيكون هدف الرئاسة منها قد اتضح، ولو نسبياً، من خلال تصريح تبون، على هامش زيارته إلى تركيا، بقوله إن المبادرة: «ضرورية لتكوين جبهة داخلية متماسكة». وفي هذا السياق، يقول متابعون للشأن السياسي، إن السلطة تواجه وضعاً داخلياً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً قابلاً للانفجار في أيّ لحظة، في موازاة تحدّيات خارجية توصف بـ«غير المسبوقة». لذا، فإن تعزيز الجبهة الداخلية لمواجهة المتغيّرات الدولية والإقليمية صار أولوية، كون الصراع على جبهتَين من شأنه أن يفقدها توازنها على المديَين القريب والمتوسط.
وعلى رغم أن الظاهر هو التحكّم في جميع الأصوات المعارضة داخلياً، لكن الأكيد أن الوضع الاجتماعي ليس مستقراً، بفعل تردّي القدرة الشرائية، ما يمكن أن يُحدث احتجاجات عمّالية ترفع مطالب اجتماعية بخلفيات سياسية. وخارجياً، تجد الجزائر نفسها في خضمّ وضع دولي ملغّم، أسوأه التطبيع المغربي - الإسرائيلي، الذي يجعل الحدود الغربية غير آمنة. يضاف إلى ذلك، الحرب الروسية – الأوكرانية وتبعاتها الاقتصادية والسياسية.
إزاء ما تقدَّم، اتفقت أصوات في الجزائر، على ضرورة التعجيل بتسوية الخلافات الداخلية، للتفرّغ لأيّ طارئ خارجي، بخاصة أن السلطة الجزائرية تملك مفاتيح حلحلة الوضع السياسي والاجتماعي، وقد لا تضطرّ حتى لقولبته في شكل مصالحة أو مشروع سياسي، وإنّما يكفي إقرار إجراءات، مثل الإفراج عن حوالى 300 معتقل رأي، وتخفيف الضغط على الحريات الفردية والجماعية، وتحرير العمل السياسي والإعلامي، وغيرها. مع هذا، يبقى مسعى «لمّ الشمل» غير واضح الرؤية، على رغم تنظيم تبون لقاءات «تشاورية» مع عدد من الشخصيات والأحزاب السياسية، غداة الإعلان عن المشروع. وجرى التطرّق في هذه اللقاءات، إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الداخلية والمتغيّرات الخارجية، واتُّفق على أن الوضع الخارجي حرج، وأن هناك ضرورة لتعزيز التماسك الداخلي.