جنين | ليل أول من أمس، وبعد أكثر من ساعة على وقوع عملية إطلاق النار في شارع ديزنغوف في تل أبيب، تجمّع العشرات من جنود الجيش الإسرائيلي، والشرطة، وحرس الحدود، والوحدات الخاصة، و«الشاباك»، ومعهم المستوطنون، أمام مبنى في الشارع نفسه، ووجّهوا أسلحتهم الكثيرة إلى الشقق العليا. لحظتها، بدا كأن منفّذ العملية الفدائية قد وقع في قبضتهم، وها هم يتحضّرون للانقضاض عليه وإنهاء خطره. ولكن، بعد مرور دقائق فقط، تبيّن لدى الواقفين في المكان أن لا أحد هناك، وأن المقاوم الفلسطيني لا يزال حرّاً طليقاً، ولديه القدرة على إحداث المزيد من الضرر. هذا المشهد، بكلّ ما يحمله من دلالات، يبدو الأقرب فعلياً إلى صورة الكيان الإسرائيلي حالياً، من أعلى الهرم إلى ذلك المستوطن الذي بات يخاف التجوّل في شوارع عاصمة «بلاده».قد يكون مهمّة شاقّة جدّاً، جمع كلّ التصريحات والإشارات بشأن الاستعدادات والإجراءات العسكرية والأمنية التي اتخذتها أجهزة العدو الأمنية، وجيشه بوحداته الخاصّة وألويته النظامية، خلال الأيام والأسابيع الماضية، على وقع الاستعداد لشهر رمضان، ولاحقاً على وقع العمليات التي شهدتها بئر السبع والخضيرة وتل أبيب. ويمكن هنا تقسيم الفترة، منذ بداية العام الحالي، إلى مرحلتين: الأولى، هي استعداد للتصعيد قبيل شهر رمضان وخلاله في الضفة الغربية والقدس على وجه الخصوص؛ والثانية، عاجلة وتفاعلية أتت بعد عملية بئر السبع المزدوجة، والتي أشعلت الإنذار لدى المستوى الأمني في الكيان. ويبدو أن المقاومة ــــ أفراداً وتنظيمات ــــ اختارت التسلّل من بين المرحلتين؛ إذ أوهمت العدو أنّه حاصرها في الضفة والقدس، وأحبط خططها وضرب خلاياها، وعطّل قدرتها على المناورة وتنفيذ العمليات النوعية، لتنقضّ عليه في المدن المحتلّة (أراضي 48)، حيث لم يكن يتوقّع، وحيث اعتقد أنّه بحملة الاعتقال والعقاب التي نفّذها، بعد معركة «سيف القدس»، في أيار الماضي، قد كسر عزيمة فلسطينيي الداخل. على أن الغلَبة الفلسطينية، في المرحلة الأولى، أي حتّى لحظة تنفيذ العملية الأولى في بئر السبع، تمثّلت في:
ــــ القدرة على الخداع والمباغتة، والضرب حيث لا يتوقّع العدو.
ــــ التغلّب على الإجراءات الأمنية الإسرائيلية الدوريّة والمشدّدة، والتملّص من الوقوع في الإنذار المبكر، وتحقيق عنصر المفاجأة.
ومع هجوم بئر السبع، انتقلت المعركة إلى مرحلة أكثر تعقيداً، حيث لم يعُد عنصر المفاجأة عاملاً محورياً، لأن العدو بات يتحسّب لإمكانية وقوع عمليات جديدة في الداخل المحتل، وهو يحاكي في خططه وإجراءاته هذا السيناريو، وبالتالي، بات المشهد أمام المقاومين أكثر تعقيداً. ولكن، على الرغم من ذلك، نجح هؤلاء في تنفيذ ثلاث عمليات نوعية أخرى، آخرها كانت في تل أبيب. وفي هذه المرحلة الثانية، يُسجّل للمقاومة، في ظلّ الحرب الأمنية مع العدو، ما يأتي:
ــــ القدرة على اختراق الإجراءات الأمنية المستجدّة والمكثّفة (عقب عملية بئر السبع)، وتنفيذ الهجمات بالسلاح والرصاص.
ــــ تأمين نقل المنفّذين وأسلحتهم من الضفة الغربية إلى المدن الرئيسية في الكيان (هذا التطوّر برز في عمليتَي بني براك وتل أبيب، وهو الأخطر بالنسبة إلى العدو).
ــــ التنويع في نقاط العمليات جغرافياً، حيث يُضعف ذلك تركيز الجهود الأمنية للعدو.
ــــ اختيار المنفّذين بعناية، وبمميّزات خاصّة، وبانتماءات غير واضحة وبارزة، وبخبرة واحترافية واضحة (تجلّت في الهجومَين الأخيرَين، من خلال دقّة الإصابة عند إطلاق النار).
تبدو الخيارات الإسرائيلية محدودة ومقيّدة بالكثير من الحسابات الأمنية والسياسية


ليست هذه المرة الأولى التي يتعامل فيها العدو مع موجة من العمليات النوعية داخل الأراضي المحتلة. ففي السنوات القليلة التي سبقت الانتفاضة الثانية، وقعت عدّة عمليات داخل المدن المحتلّة، انطلاقاً من الضفة الغربية والقدس. آنذاك، وتحديداً في عام ١٩٩٩، وبعد عام واحد على تسلّمه قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي، قال اللواء موشي يعلون، خلال ورشة عمل عُقدت في شعبة هيئة الأركان في الجيش، للبحث في تطوير أساليب التعامل مع التصعيد في الضفة الغربية والقدس، إنّ «المشكلة هي عدم وجود أطر نظرية للتعامل مع الساحة الفلسطينية، وخاصّة الضفة الغربية»، مشيراً إلى وجوب إعداد وتطوير خطط بديلة. وفي هذا السياق، قدّم مشروعه «براشيت»، الذي ارتكز على ثلاث قواعد رئيسية:
1ــــ تغيير إجراءات تقييم الوضع.
2ــــ التخطيط العملياتي القتالي.
3ــــ عدم التعامل مع الساحة الفلسطينية كجبهة قتال جديدة.
وعلى هذه القواعد الثلاث، ارتكز يعلون في التعامل مع التطورات الأمنية والعسكرية في الضفة الغربية، وكان هو أوّل من تحدّث عن تحقيق نوع من «الإنذار المبكر» في ما يخصّ العمليات الفدائية في الداخل المحتل. ودعا إلى تطوير الخطط لتحقيق «إحباط مسبق» للعمليات، و»الاستجابة السريعة» لها في حال وقوعها. ولا يزال معمولاً بهذه العناوين/ المراحل الثلاث، إلى اليوم، بيد أن المفارقة هي أنّها لم تفلح في سنوات الانتفاضة في كبح المقاومين وإحباط العمليات، حتى اضطرّ العدو، عقب عملية تفجير فندق بارك في مدينة نتانيا، إلى شنّ عملية «الدرع الواقي» في آذار 2002، لاجتياح مدن وبلدات الضفّة الغربية، والهدف الأساسي: «وقف العمليات الفلسطينية داخل إسرائيل» (جرت العملية في مثل هذه الأيام تماماً). لكن، لم تنجح تلك المقاربة العسكرية في إيقاف العمليات، لتجد إسرائيل نفسها تبني جداراً لعزل الفلسطينيين عن «المناطق الإسرائيلية». ومع تقدّم السنوات، أُضيف إلى مشروع يعلون، عاملان:
ــــ تعزيز الجدار العازل وإحكام إغلاقه (فشل العدو في ذلك لأسباب عدة).
ــــ رفع مستوى التنسيق الأمني الشامل مع أجهزة السلطة في رام الله.
وأمام العمليات الإبداعية والبطولية التي تضرب قلب الكيان، اليوم، وفي المقدّمة عاصمته، رغم تحقّق كلّ الأسباب التي حدّدها العدو لضبط الأمن ومنع العمليات، تبدو الخيارات الإسرائيلية محدودة، ومقيّدة بالكثير من الحسابات الأمنية والسياسية. فأيّ خيار تصعيدي قد تذهب إليه إسرائيل، لن يشكّل نهاية القصّة، بل قد يكون بداية تصعيد جديد أشمل وأكبر، لا تُعرف مآلاته ونتائجه. وإذا كان العدو قد وجد نفسه أمام عملية عسكرية في الضفة الغربية، عام 2002، فإن هذا الخيار يبدو مكلفاً اليوم، إذ تترصّد فصائل المقاومة في قطاع غزّة الفرصة المناسبة للدخول في المعركة، ومنع استفراد العدوّ بأيّ ساحة فلسطينية. وهذا جوهر سياسة «ربط الساحات» التي اعتمدتها المقاومة انطلاقاً من معركة «سيف القدس».