لم يَدُم طويلاً قرار الرئيس الأميركي، جو بايدن، في بداية ولايته عام 2021، وقف دعم بلاده لعمليات التحالف السعودي - الإماراتي في اليمن. إذ أدّى الهجوم الذي شنّته قوات صنعاء على محافظة مأرب، وتمكُّنها من تحرير معظم مديريات المحافظة، إلى تَغيّر في موقف البيت الأبيض، الذي اعتبر أن استعادة المحافظة والموارد النفطية فيها ستكون لها تداعيات كبيرة على مجريات الحرب لصالح «أنصار الله». سارع «البنتاغون» إلى تصنيف عمليات «التحالف» في مأرب، بشكلٍ رسمي، على أنها دفاعية، بالطريقة نفسها التي يُسمح فيها باستخدام الأسلحة الهجومية في التصدّي للصواريخ والطائرات المسيّرة، باعتبار ذلك فعلاً دفاعياً. واستهدف هذا التصنيف العودة إلى تقديم الدعم الاستخباراتي والفنّي لما سُمّي «الحملات الدفاعية في ساحة المعركة»، وبالتحديد في مأرب وشبوة، أي «توفير الدعم غير الحركي» للحلفاء، فضلاً عن حظر عمليات تهريب الأسلحة بشكلٍ حاسم. هكذا، وبعدما رفضت صنعاء أيّ «خطوط حمر أميركية» في ما يتّصل بالمعركة هناك، وخصوصاً مركز المحافظة ومديرية الوادي الغنية بالنفط، فعّلت واشنطن خطّتها «الدفاعية»، وفق الآتي:أوّلاً: أظهرت الأشهر الأخيرة اختلافاً عن السابق في إدارة المعركة والتنسيق بين الجبهات، وأيضاً في القدرات الفنّية والاستخباراتية والجاهزية العالية لسلاح الجوّ من حيث السرعة والدقّة، فضلاً عن كثافة استخدام الطائرات المسيّرة الاستطلاعية، وتلك المزوّدة بصواريخ لقصف الأهداف البشرية والآلية، فيما تولّى الضبّاط الأميركيون التنسيق بين جبهتَي شبوة ومأرب، إضافة إلى إدارة الفِرق الأميركية الخاصة في الميدان. والأهمّ من كلّ ذلك أن واشنطن، حسب اعترافها، سلّمت السعوديين بنك أهداف محدّثاً، مع رفع للقيود السابقة القاضية بتحييد المدنيين عن القتل، أي ما يسمّيه الأميركيون «الأضرار الجانبية» في الحرب.
ثانياً: الطلب من الإمارات الزجّ بقواتها، ولا سيّما سلاح الجوّ الحربي والمسيّر فضلاً عن الوكلاء الجنوبيين، في معركة شبوة. ولذا، أعادت أبو ظبي بعض قادة الميليشيات الذين كانوا مقيمين على الأراضي الإماراتية إلى اليمن بموافقة سعودية، حيث تمّ منحهم المال والوقود والذخيرة، فيما استُقدمت ميليشيات «العمالقة» من الساحل الغربي إلى شبوة، واستُخدم مطار عتق كمركز لقيادة العمليات العسكرية واللوجستية، واعتُمد مدرجه الوحيد لهبوط الطائرات العسكرية وطائرات الإمدادات اللوجستية القادمة من الإمارات.
على المستوى السياسي، أدرجت الدبلوماسية الأميركية معركة مأرب في صُلب اهتماماتها في الشرق الأوسط، ووضعتها على رأس جدول أعمال المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيم ليندركينغ، الذي وصل به الأمر في إحدى الجولات التفاوضية إلى التهديد بلغة جازمة بأنه في حال عدم توقّف المعركة «سيكون لنا كلام آخر». كذلك، لا تغيب مأرب عن تصريحات المسؤولين الأميركيين كافة، في الخارجية والأمن القومي والدفاع، إذ يدأبون أسبوعياً على إطلاق تهديدات صريحة للجانب اليمني في حال استمراره في الهجوم. كما تنخرط وسائل الإعلام الأميركية، إلى جانب الإسرائيلية والخليجية، في خطّة هادفة إلى إحداث تأثير معنوي سلبي على صنعاء، عبر التركيز على عبثية الهجوم ولا جدوى استعادة المدينة والمنشآت الحيوية.
أدرجت الدبلوماسية الأميركية معركة مأرب في صُلب اهتماماتها ووضعتها على رأس جدول أعمال مبعوثها


وهنا يُطرح السؤال: لماذا الاستماتة الأميركية في منع تحرير مأرب؟
تتصرّف دول العدوان على اليمن، وبمؤازرة مباشرة من واشنطن، على أساس أن تحرير «أنصار الله» مدينة مأرب ومديرية الوادي النفطية، تحوُّل في مسار الحرب ومصيرها، وأن ذلك إن حصل سيكون له الأثر الكبير على قرار الاستمرار في الحرب أو وقفها، على اعتبار أنه سيُحدث اختلالاً في الموازين الاستراتيجية، من خلال إعادة رسم خارطة المنطقة، وفتح أفق أبعد، الأمر الذي يؤهّل صنعاء للقيام بأدوار محورية ومركزية في الإقليم (العربي) والقرن الأفريقي. وهذا ما عبّر مسؤول سعودي منذ أيام لـ«وول ستريت جورنال» بالقول: «إذا سيطر الحوثيون على مأرب سنخسر الحرب ونفقد الأمن والاستقرار في المنطقة». كما أن تحرير مأرب بالكامل سيؤدي، وفق التقدير الخليجي - الأميركي، إلى تغيّر جذري على مستوى العملية السياسية والمفاوضات (شكلاً ومضموناً)، عبر الدفْع إلى حلّ نهائي يضمن مركزية التمثيل السياسي لـ«أنصار الله»، وهو ما ترفضه السعودية حتى هذه اللحظة. ولعلّ قيادات «الشرعية» تنبّهت باكراً إلى خطورة ذلك التحوّل، وفق ما أوحت به تصريحات قياداتها، ومن بينهم رئيس مجلس الشورى، أحمد عبيد بن دغر، الذي قال: «إن هُزمنا في مأرب فقد هُزمنا في ما بعدها».

خطّة صنعاء
راهن النظام السعودي على أن قبائل مأرب مستعدّة للقتال في صفّه حتى آخر رجل منها، واستخفّ بمساعي الأجهزة الأمنية ولجان المصالحة التابعة لصنعاء في استمالة ولاء زعماء القبائل، بدعوى أن هؤلاء يعتزّون باستقلالهم طالما لديهم أسلحة وقدرة على القتال. كذلك، ركنت القيادات العسكرية والسياسية السعودية إلى التقديمات والإغراءات المالية، واتّكلت على توسيع الفجوة الأيديولوجية، والمصادَرات التاريخية بأن هذه المحافظة لن تخضع أبداً لحُكم صنعاء، علماً أن المملكة ترى في مأرب جسر عبور لطموحاتها في اليمن، ومنع هذا البلد من استثمار موارده البشرية والطبيعية، وإبقاء ثُلاثية «النفط والقبلية والأمن» حاكمة من أجل ليّ ذراع القيادة اليمنية.
في المقابل، عرفت صنعاء أن مأرب هي المعركة الأهمّ بعد كسر خطوط الدفاع في فرضة نهم. ومن هنا، بدأت خطّتها التي قامت على «القضم التدريجي»، على رغم ما تسبّب به ذلك من إطالة لأمد المواجهة. إذ هدف الجيش و»اللجان الشعبية» إلى تشتيت قوى العدوان، وتفكيك العقد الجغرافية (التضاريس) والديموغرافية والاجتماعية التي تمتاز بها البيئة القبلية للمحافظة، خصوصاً أن حزب «الإصلاح»، ومِن خلفه النظام السعودي، حاولا إثارة التناقضات الداخلية في مأرب اعتماداً على إذكاء التفرقة المذهبية والمناطقية. وقد نجحت صنعاء، من خلال تواصلها مع أهمّ القبائل (مراد والعبيدة)، في طمأنة شيوخها وإحداث خروق كبيرة، واستمالت أبرز بطونها وأفخاذها، وأنشأت ثلاثة ألوية قاتلت في المرحلة الأخيرة إلى جانب الجيش و«اللجان».
ميدانياً، استطاعت قوات صنعاء التعامل بمهارة فائقة مع بيئة معقّدة وصعبة للغاية. وهي استفادت من زخم الانتصارات التي حقّقتها في محافظة البيضاء لفتح محاور جديدة في شبوة ومديريات مأرب الجنوبية (حريب، العبدية، الجوبة، جبل مراد)، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في مسار المعركة. وبدلاً من اعتماد المناورة بالهجوم الطويل والمستمرّ، اتّبعت قيادة «أنصار الله» تكتيك تجزئة المواجهة، وتطويق المحافظة ثمّ المدينة من معظم الاتجاهات، متحاشيةً الطريق الأقرب، وهو صرواح، الذي يبعد عن المدينة 15 كلم، بغية تجنيب مركز المحافظة القتل والتدمير، من جهة، ولتفويت الفرصة على قوى العدوان لضرب مؤخّرة قوات صنعاء، في حال لم تكن المديريات المحاذية للمدينة محرَّرة. وشاركت القوى العسكرية للجيش و»اللجان» بكافة صنوفها واختصاصاتها في المعركة، وكان للوحدات التي يحمل أفرادها مؤهّلات علمية، وقدرة على التعامل مع الأجهزة الحديثة والمتطوّرة، خصوصاً العتاد النوعي وأجهزة الاتصالات والأجهزة الفنّية والإكترونية، دور بارز في خطة الإنهاك، فضلاً عن التنسيق بين الوحدات المقاتلة على الأرض، وربطها مع غرفة عمليات الطيران المسيّر، والقوة الصاروخية.
واستغرق التخطيط لمعركة مأرب عدّة شهور، خصوصاً أنها تفترض تمتّع القوات البرّية، لاسيّما رأس الحربة فيها، بمهارات عالية في الاقتحامات وحرب الشوارع والمعرفة المسبقة بتضاريس المحافظة، بالإضافة إلى الخبرة الطويلة والتمرّس في القتال في المناطق الصحراوية والجبيلة في وقت واحد. وضمّت القوات المقتحمة، بالإضافة إلى الألوية البرّية العادية، كتائب نخبوية وأخرى متخصّصة ووحدات من القناصين، فضلاً عن تخصّصات المدفعية والهندسة وأسلحة ضدّ الدورع، ومشاركة واسعة للمنظومات المعلوماتية، بما فيها الفنّية والاستخباراتية، بالتوازي مع عمل لجان المصالحة.