نجاح إسرائيل في اغتيال ثلاثة مقاومين من حركة "فتح"، وتوعُّدها باغتيال رابع، لا يلغيان مساراً حيّاً وقائماً تخشى تل أبيب ما سيفضي إليه، من إعادة تشكُّل لهويّةِ مقاوَمةٍ مسلّحة في الضفة الغربية المحتلّة، بقيادة ومشاركة عناصر من حركة "فتح"، التي كانت حتى الأمس القريب موضع رهان إسرائيلي، بمعيّة السلطة الفلسطينية، على إمكان دفعها إلى الحياد مقابل المقاومين، بل وأيضاً الاصطفاف إلى جانبها ضدّهم، بوصف المقاومة "عدواً مشتركاً" للجانبين. لكن بعدما فشلت كلّ الخطط الإسرائيلية في طمْس الهوية المقاوِمة لعناصر "فتح"، أقلّه في المستويات الدنيا الميدانية، تجد تل أبيب نفسها مضطرّة لتفعيل نشاط ميداني وقائي، من أجل صدّ المسار "الفتحاوي" المتشكّل في الضفة، وذلك تحت طائلة نموّ تهديد هائل لمصالحها وربّما أيضاً لوجودها. ولعلّ هذا هو ما يفسّر طريقة الاغتيال الصاخبة وغير التناسبية والعلَنية في وضح النهار وفي قلب مدينة نابلس، فضلاً عن التهديد باغتيال آخرين من الخلية نفسها، والكشف عن خلايا إضافية هي موضع ملاحقة ومرشّحة للاستهداف والاغتيال. وعلى رغم القسوة التي اتّسمت بها العملية، فهي كشفت قلقاً إسرائيلياً متنامياً من وجود عناصر تابعين لحركة "فتح"، لا يساوِقون توجُّهات السلطة لناحية مهادنة الاحتلال والتبعية له. ولذا، يستهدف الاغتيال، في جانب رئيس منه، تعزيز صورة الردع في وعي "الفتحاويين"، ومنعهم من الالتحاق بأنشطة المقاومة المسلّحة، تحت طائلة التصفية الجسدية، حتى لو كان المقاوم "فتحاوياً" ومتمركزاً في مدينة فلسطينية، توحي أعمال الاحتلال بأنها خارجة عن دائرة الاستهداف. كذلك، تأتي العملية لتؤكد أن خطّة تحويل "فتح" من عدو إلى صديق، تعاني ثقوباً غير قليلة ولا يبدو أنها قابلة للمعالجة، على رغم كلّ الجهود التي قادتها تل أبيب، وبمشاركة كاملة من رام الله، لتَحفر في وعي "الفتحاويين" ضرورة الالتحاق بالعدو، بدعوى مواجهة "عدوّ مشترك"، متمثّل في فصائل المقاومة الأخرى، من حركتَي حماس و"الجهاد الإسلامي" وأقرانهما.
لن يكون «أبو مازن» في عجلة من أمره كي يتخلّى عن سلّة العطاءات التي قدّمها له غانتس


وعلى رغم أن وجود مجموعة من حركة "فتح"، تنشط ضمن خيار المقاومة المسلّحة، إنّما يمثّل تهديداً لهوية السلطة ودورها الوظيفي، إلّا أن تصدّي الأخيرة لمجابهة مجموعة من هذا النوع، ستكون له تداعيات لن تقوى رام الله على مواجهتها، خصوصاً في مرحلة تعاني فيها من ضعف غير مسبوق، ولذا حضر العنصر الإسرائيلي بنفسه لتنفيذ المهمّة. مع ذلك، أعلنت "اللجنة المركزية لحركة فتح"، في ردّها على الاغتيال، تعليق "التنسيق الأمني" مع إسرائيل بجميع أشكاله، بما يشمل أيضاً كلّ الاتفاقيات الأخرى، ومن بينها "الاعتراف بإسرائيل"، فيما تمّ تكليف اللجنة التنفيذية لـ"منظّمة التحرير الفلسطينية" بالعمل مع سائر الأجهزة من أجل تطبيق القرار. لكن هل ستُقدم السلطة، بالفعل، على تنفيذ تعهّدها هذه المرّة؟ الإجابة هي لا كبيرة بالطبع، لكن ما قامت به "المركزية" لا يعدو كونه محاولة لمساوقة الغضب "الفتحاوي"، والفلسطيني عموماً، في أعقاب عملية الاغتيال، فيما الأكيد أن ذلك القرار سيبقى "حبراً على ورق"، إذ وفقاً لمصادر أمنية إسرائيلية (معاريف)، لن يكون "أبو مازن" في عجلة من أمره كي يتخلّى عن سلّة العطاءات التي قدّمها له وزير الأمن، بني غانتس، في الأسابيع الأخيرة. وبحسب المصادر نفسها، "لمحمود عباس مصلحة كبيرة جدّاً في منع التصعيد الأمني في الضفة الغربية، والذي هو سيدفع ثمناً هائلاً في حال حصوله".
بالنتيجة، هل يمكن الرهان على استعادة عناصر من حركة "فتح" هويّتهم المقاومة؟ الرهان كبير بالفعل، وخاصة لدى المستويات الدنيا في الحركة. والخلية المستهدَفة، وغيرها مِمَّن يهددهم الاحتلال بالاستهداف، شاهدون على أرجحية ذلك الرهان. في المقابل، هل يمكن للعدو أن يئد استعادة الهوية "الفتحاوية"؟ التهديد أيضاً كبير، ويستلزم من عناصر الحركة الذين يتساوقون مع فلسطينيّتهم، حذراً مضاعَفاً سواءً في وجه العدو، أو في وجه أدواته في السلطة.



أكّدت مصادر أمنية فلسطينية، في حديث إلى «القناة 13» العبرية، أن التعاون والتآزر بين منظّمات فلسطينية مختلفة، في مستويات وأطر محلية، من شأنهما أن يقودا إلى المزيد من العمليات ضدّ الجيش الإسرائيلي، سواءً على خلفية الاغتيال في نابلس، أو نتيجة لغيرها من الأسباب. من جهتها، حذّرت مصادر إسرائيلية، للقناة نفسها، من أن الصور المبثوثة من نابلس تجلّي حالة غليان في الضفة، منبّهة إلى أن السلطة الفلسطينية هي الآن في وضع حرج؛ فالذين اغتيلوا هم من عناصرها، وقد نفّذوا عمليات ضدّ إسرائيل، لكنها، في الوقت نفسه، معنيّة بأن تسمح بتنفيس الاحتقان في الشارع، والمعنى الميداني لما تَقدّم هو توقُّع أيام من الغضب والإضرابات، من دون أن تفلت السلطة اللجام وتسمح بتصعيد غير محدود.