رام الله | هي ليست المرّة الأولى التي تَظهر فيها إسرائيل على حقيقتها: دولةً مؤسَّسة على العنصرية والكراهية والإجرام، لكن حادثة القتل الأخيرة في الضفة الغربية المحتلّة، والتي استهدفت مسنّاً فلسطينياً بلا أيّ ذنب، جعلت الدولة العبرية في دائرة الضوء العالمي، خصوصاً أن الضحية حاملٌ للجنسية الأميركية. وتوازياً مع هذا الجدل، أُعيد فتْح النقاش حول الكتيبة المتطرّفة المسؤولة عن عملية القتل، والتي لا تفتأ تمارس جرائمها منذ 23 عاماً من دون حسيب أو رقيب؛ بل إن المهامّ «غير النظيفة وغير الحرفية» في الضفة، أُوكلت إليها هي بالذات نظراً لطابعها الفريد، حتى يتسنّى لبقيّة الكتائب القيام بالأعمال التقليدية. وعلى رغم تلك الحقيقة، يُلقى اليوم باللوم كلّه على «نيتساح يهودا»، على رغم أن التاريخ القريب والبعيد يُظهر أن ما قامت به ليس إلّا نهجاً ثابتاً ومرعيّاً رسمياً
لا تزال قضية استشهاد المسنّ الفلسطيني، عمر عبد المجيد أسعد (80 عاماً)، من بلدة جلجليا شمال رام الله في الضفة الغربية، منتصف الشهر الفائت، تتفاعل بقوّة داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، خصوصاً أن أسعد يحمل الجنسية الأميركية، ما دفع واشنطن إلى الدخول على خطّ الأزمة. وكان أسعد اعتُقل في منتصف الليل بينما كان عائداً من زيارة أقاربه، حيث هاجم جنود العدو سيّارته وأخرجوه منها، ثم قيّدوا يدَيه وأغلقوا فمه، وعندما حاول المقاومة، تعرّض للضرب المبرّح، ثمّ تُرك مكانه في البرد الشديد حتى فارق الحياة، عقب تعرّضه لجلطة قلبية. وبعدما انتشرت الحادثة في الإعلام العالمي، طالبت الإدارة الأميركية، الحكومة الإسرائيلية، بإجراء «تحقيق شفّاف» فيها، واتّخاذ الإجراءات المناسبة بحقّ مَن تسبّبوا بها.
وعلى إثر هذا الطلب، قرّر قائد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، يهودا فوكس، قبل يومين، نقْل كتيبة «نيتساح يهودا» العاملة في «لواء كفير» الذي ينتشر في الضفة، من رام الله إلى منطقة أخرى، بعدما تسبّب جنودها بمقتل المسنّ الفلسطيني. ومع ظهور نتائج التحقيق، الذي خلُص، وفق موقع «واللا» العبري، إلى أن «الحادث كان خطيراً ومؤسفاً، وتمّ استخدام العنف بعد رفض المسنّ الفلسطيني التعاون مع الجنود»، أقرّ فوكس بأن «القادة مسؤولون عن ما جرى، وكان بإمكانهم منْع الحادثة، لكن حدث انتهاكٌ للقِيَم، وفشلٌ خطير، وتعامل خاطئ مع قضية إنسانية». وقبل ذلك، أعلن الجيش الإسرائيلي إقالة ضابطَين من «نيتساح يهودا»، مشيراً إلى أنه «سيوبّخ قائد الكتيبة أيضاً»، علماً أن الإقالة لا تعني أبداً الفصْل من الجيش كلّياً، بل هي إجراء عقابي يقضي يقضي بالتجميد لمدّة سنتين فقط، مع إمكانية العودة إلى المنصب نفسه أو مناصب أخرى.
وبعد ساعات على الإعلان الإسرائيلي، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن «الولايات المتحدة غير راضية عن توصيات التحقيق الذي أجراه جيش» العدو، وهي «لا تكتفي بالخطوات المتّخذة ضدّ قادة كتيبة نيتساح يهودا»، بل «تنتظر تحقيقاً جنائياً في هذا الموضوع»، ما يعني أن واشنطن لا تنظر إلى القضية على أنها مخالَفة تعليمات تستتبع محاكمة عسكرية، بل على أنها ذات خلفية جنائية تترتّب عليها عقوبات كالسجن مثلاً. من جهتها، وصفت صحيفة «هآرتس» الإجراءات الإسرائيلية بأنها «إجراءات عقابية خفيفة، ملفوفة بخطاب فارغ من المحتوى الحقيقي»، مطالِبةً بـ«الحلّ الفوري للكتيبة». كما اعتبرت أن تعليق قائد الأركان، أفيف كوخافي، الضعيفَ على استنتاجات التحقيق، «يرسل رسالة إلى قادة وجنود الجيش الإسرائيلي مفادها أن ما حدث غير سارّ، ولكنه ليس فظيعاً».

كتيبة «المهامّ غير النظيفة»
وبمعزل عن الطابع العنصري للموقف الأميركي، الذي لا يظهر في حوادث كثيرة مشابهة لا يكون ضحاياها من حمَلة الجنسية الأميركية، إلّا أن الحادث الأخير أعاد فتْح النقاش حول كتيبة «نيتساح يهودا»، والتي ما فتئت منذ تأسيسها تثير جدلاً، يعلو أحياناً ويَخفت أحياناً أخرى. نشأت الكتيبة، ابتداءً، لاستيعاب شباب «الحريديم» - الذين تركوا التعليم الديني -، المعروفين بتطرّفهم ضدّ الفلسطينيين، وإيمانهم بـ«حرب مقدّسة» عليهم. وتعود أصول «نيتساح يهودا»، التي يُعدّ اسمها اسماً دينياً صريحاً معناه «يهودا الأبدي»، إلى منظّمة يهودية كانت داخل الجيش الإسرائيلي قبل تأسيس الكتيبة، وتُعرف أيضاً باسم «ناحال حريدي»، كونها بدأت خدمتها عام 1999، كسريّة من الحريديّين ضمن «الكتيبة 903» في لواء «ناحال»، وأصبحت في ما بعد كتيبة مستقلّة، إلى أن تمّ إخضاعها أخيراً للواء «كفير» الذي تتركّز أنشطته في الضفة الغربية. وتتمتّع «نيتساح يهودا» بعدد من الخصائص الاستثنائية؛ فهي واقعة تحت إشراف الحاخامات، وتسمح بالخدمة العسكرية إلى جانب دروس التوراة، ويخدم فيها الذكور فقط، وتُراعى فيها بشدّة أحكام «الحلال والحرام» وفق الدين اليهودي.
أعادت حادثة القتْل الأخيرة فتْح النقاش حول كتيبة «نيتساح يهودا» المتطرّفة


وبحسب مقال كتبه يوسي يهوشع في «يديعوت أحرونوت» أمس، فإن حادثة استشهاد المسنّ الفلسطيني تشكّل «دعوة للاستيقاظ، حيث يجب فحْص استمرار الكتيبة في شكلها الحالي». وتحدّث يهوشع إلى قائد سابق للكتيبة عن طبيعة المنضمّين إليها، إذ أفاد الأخير بأنها تضمّ «الجنود الذين طُردوا من المجتمع الحريدي المتزمّت (...) الشباب المهمّشين الذين بدلاً من أن يضيعوا في ساحة ختوليم في القدس، وجدوا أنفسهم يتدرّبون في الحرّ الشديد في شمال غور الأردن، ومطلوب منهم الانضباط العسكري». وأشار يهوشع إلى أن «نيتساح يهودا تعمل فقط في الضفة الغربية، ولمدة ستّة أشهر متتالية وشهر واحد فقط من التدريب، بخلاف سائر قوات الجيش»، والسبب في ذلك هو توكيلها بالقيام بأعمال الشرطة في الضفة، وبالتالي تمكين كتائب الجيش الأخرى من تولّي الأعمال العسكرية التقليدية، والتركيز على الاستعداد للحرب. إذاً، هي كتيبة المهامّ غير النظيفة وغير المحترفة، والتي ترفضها باقي الكتائب العسكرية، كونها من اختصاص الشرطة.

كذبة «قِيم الجيش»
ليست هذه المرّة الأولى، ولا العاشرة، ولا حتى المئة، التي يرتكب فيها جنود جيش العدو وضباطه جرائم صريحة، تُخالف حتى القوانين الإسرائيلية. كما أن كتيبة «نيتساح يهودا» التي يُلقى عليها اليوم كلّ اللوم، لخلفيّات تتعلّق بصورة إسرائيل و«المنظومة القِيَمية» لجيشها أمام العالم، لم تتفرّد بجرائم من هذا النوع، بل هي انضمّت إلى سلسلة طويلة من كتائب الجيش والشرطة التي ارتكبت جرائم مشابهة، ولم تلقَ محاسبة حقيقية. وعلى سبيل المثال، في الأعوام الأخيرة فقط، وتحديداً عام 2018، أفرجت السلطات الإسرائيلية عن الجندي أليئور أزرياه، الجندي الذي قَتَل بِدَم بارد جريحاً فلسطينياً ملقًى على الأرض بلا حراك، حتى قبل أن يقضي محكوميته القصيرة (18 شهراً)، حيث قضى منها 9 أشهر فقط. وبعد خروجه، قال أزرياه إنه «ليس نادماً على القتل»، وإنه سيعيد الكرّة «لو عاد بي الزمن إلى الوراء». كما حصل على تنويه من رئيس حكومة العدو آنذاك، بنيامين نتنياهو، وجرى الاحتفاء به على الملأ. وفي عام 2020، قُتل الشاب الفلسطيني، إياد الحلاق، المصاب بالتوحّد، والذي هرب خوفاً من جنود «حرس الحدود» الإسرائيليين قرب باب الأسباط في القدس المحتلّة، فأطلقوا عليه سبع رصاصات حتى قُتل، فيما لم تجرِ محاسبة الضابطَين المسؤولَين عن قتْله، واكتفى واحد منهما بإصدار بيان تعزية عبر إذاعة الجيش. والجدير ذكره، هنا أيضاً، أن الجيش الإسرائيلي عمد، قبل أشهر قليلة فقط، إلى تعديل تعليمات إطلاق النار على الفلسطينيين، بحتى باتت تشمل مُلقِي الحجارة أو مَن يعتقد الجنود أنهم لديهم نيّة لذلك، حتى لو كانوا أطفالاً، في ما يمثّل دليلاً إضافياً على أن «القِيَم» المدّعاة ليست سوى ميول جرمية وعنصرية، تغذّيها تعليمات القيادة، وتعويل الجنود والضباط على وجود تساهل مؤسّساتي حيالها.