يسعى تحالف إقليمي ترْعاه واشنطن وتقوده أبو ظبي للإمساك بالقرار العراقي، عبر أطراف داخلية بدأت تعمل على إنشاء أذرع أمنية، وتَستخدم أيضاً مشاريع اقتصادية، في الوقت الذي تَرفع فيه شعار نزع سلاح المقاومة وإعادة هيكلة «الحشد الشعبي»، بهدف إضعاف حلفاء طهران في العراق. ويرتكز هذا المسعى، بشكل رئيس، إلى قوى من «المكوِّن السُّنّي» يتزعّمها رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وأخرى «كردية» يتصدّرها «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، مستغلّاً، في ذلك، فجوة في «الصفّ الشيعي» ناجمة عن موقف «التيار الصدري»، الذي سيتوقّف على قراره النهائي مآل الأحداث، بعدما حاول أكثر من مرّة المُضيّ في «طريقه»، ثمّ تراجَع تحت الضغط، خوفاً من أن تَفلت الأمور، وتؤثّر سلباً على مشروعه الخاص للحُكم
صار رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي، يمثّل نقطة تقاطع في العراق، تلتقي عندها قوى إقليمية منها الإمارات وتركيا والسعودية، وأخرى محلّية هي التي أوصلته إلى المنصب لولاية ثانية، ويتقدّمها «التيار الصدري» والقوى «الكردية» و«السُّنّية». وبموازاة هذه المَنزلة السياسية، أصبح الرجل، أيضاً، عنواناً رئيساً للتوتّر الأمني، في الوقت الذي تُراد فيه إعادة صياغة الأدوار الأمنية في البلاد، الأمر الذي يتصدّره مقتدى الصدر كذلك، من خلال المطالبة بنزع سلاح فصائل المقاومة، وإعادة هيكلة «الحشد الشعبي»، بهدف الحدّ من دوره الأمني - السياسي الذي لا يناسب الصدر كثيراً. فالحلبوسي وحزبه كانا في الأسابيع القليلة الماضية هدفاً لعدّة هجمات بالصواريخ، استهدفت منزله في محلّة الكرمة في محافظة الأنبار ومقرّ حزبه في الأعظمية في بغداد. كما أنه متّهم، على رغم نفْيه، بالوقوف وراء تشكيل ميليشيا «أشباح الصحراء» لتكون ذراعاً عسكرية للقوى الإقليمية، متى أرادت الأخيرة توجيه رسائل أمنية إلى العناوين المطلوبة، ولا سيما إيران، لكن تحت عنوان حماية مقرّات الأحزاب والكتل «السُّنّية» من الهجمات التي تتعرّض لها، وخاصة في بغداد.
حتى إذا قامت حكومة أغلبية تضمّ فصائل المقاومة ومُمثّلي «الحشد» السياسيين، يظلّ المشروع هو ذاته؛ إذ يريد الصدر هؤلاء في الحكومة شهوداً على «سلْخ جلودهم»، لا شركاء في القرار، خاصة أن إشراكهم يَفترض نسف «الإطار التنسيقي» الذي يضمّهم إلى «ائتلاف دولة القانون»، ويجعلهم كتلة وازنة ومؤثّرة في البرلمان، ولو كانوا خارج الحكومة. مِثل هذا المشروع لا يحبطه إلّا كونه مخطّطاً تفجيرياً لا يستطيع تحمُّلَ نتائجه بعضُ أركانه. ولذلك، فإن انطلاقته تتعثّر في كلّ مرّة يحاول فيها أطرافه إطلاقه، إلّا أنهم ما انفكّوا يكرّرون المحاولة. لكنّ أيّ تلاعُب بالصيغة الأمنية التي حمَت العراق وأمّنت استقراره منذ هزيمة تنظيم «داعش»، من شأنه أن يؤدّي إلى اضطرابات أمنية لن يكون من الممكن السيطرة عليها. ومردّ هذا أن القوى الأمنية ليست قادرة على حماية البلد من تهديدات العصابات، كونها مبنيّة من قِبَل قوات الاحتلال على أساس ألّا تكون فاعلة، لتظلّ الحاجة إلى الأميركيين القائمة، ولها ولاءات مختلفة لا تسمح لها بامتلاك عقيدة قتالية تُمكّنها من التصدّي بفاعلية لهكذا تهديدات، ومن ضمنها تهديد «داعش»، أو الخطر الذي تُمثّله قوات «البيشمركة» على وحدة العراق في حالة بروز الطموحات الانفصالية مجدّداً، مع التذكير، هنا، بأنه عندما جرى الاستفتاء على استقلال «إقليم كردستان» في 25 أيلول 2017، لم يكن الجيش والأمن العراقيان هما اللذيْن أسقطاه، وإنّما قوى المقاومة.
حتى إذا قامت حكومة أغلبية تضمّ فصائل المقاومة ومُمثّلي «الحشد» السياسيين، يظلّ المشروع هو ذاته


وإذا كانت التطوّرات الأمنية التي شهدها العراق منذ الانتخابات في تشرين الأول الماضي، والمُرشّحة للتصاعُد في المرحلة المقبلة في حال عدم التوصّل إلى تسوية، نتيجة مباشرة لِمَا يجري في السياسة من صراع مرير، فإن هذا الصراع نفسه يعكس تقاطُع مصالح إماراتياً - سعودياً - تركياً في العراق، يقود العملَ على ترجمته وليُّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، سواءً بالتنسيق مع الرياض وأنقرة، أو باللقاءات مع قادة القوى السياسية العراقية ولا سيما «الكردية» و«السُّنّية» منها. ويكفي، للتدليل على ذلك، أن ابن زايد استقبل رئيس «إقليم كردستان»، نيجرفان بارزاني، ثلاث مرّات في أقلّ من ستّة أشهر، واجتمع أيضاً برئيس حكومة الإقليم، مسرور بارزاني، كما التقى الحلبوسي مرّتَين في ثلاثة أشهر، وأمر بالإفراج عن أموال خميس الخنجر الذي انضمّ إلى الحلبوسي على رغم العقوبات الأميركية، فضلاً عن أنه أجرى اتصالاً هاتفياً بالصدر في نهاية الشهر الماضي. ويبدو أن الرغبة الأميركية في تولّي الإماراتيين القيادة، تنطلق من فكرة استبعاد وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي فشل فشلاً ذريعاً في إدارة كلّ الملفّات التي تولّاها، ولا سيما العدوان على اليمن، وصار عِبئاً على الأميركيين بل ومتمرّداً عليهم أحياناً، كما يُظهر تعاطيه مع قضية أسعار النفط، وخطوات تقارُبه مع الروس والصينيين.
لكنّ هذه القيادة لا تمنع أن تكون الرياض جزءاً من المشروع الذي له جانب اقتصادي، يرغب ابن سلمان في إدارته. وهذا ما يفسّر اهتمام الأخير البالغ بالربط الكهربائي الخليجي مع العراق، والذي يدخل كرديف للربط الكهربائي مع إيران وتركيا، إذ وجّه وليّ العهد، وزير الطاقة لديه، وهو أخوه عبد العزيز بن سلمان، بأن «يكون وزيراً في الحكومة العراقية، يتولّى تقييم أدائه مجلس الوزراء العراقي»، وذلك إثر توقيع اتفاق لنقل 500 ميغاوات من الكهرباء من السعودية إلى العراق. ومردّ هذا التوجُّه هو أن الدور الأمني الذي لعبته السعودية في العراق قبل سنوات، من خلال خلايا الإرهاب التي أدارها بندر بن سلطان، وأنتجت آلاف الانتحاريين السعوديين الذين اخترقوا المدن العراقية وقَتلوا الآلاف من أبنائها، ليس ملائماً للأمير الشاب الذي يسعى إلى التخفيف من غلواء الوهابية و«تغريب» المجتمع السعودي، ضمن طموحه إلى السيطرة على الحُكم.
على أيّ حال، وعلى رغم أن أصحاب هذا المشروع باتوا يتّخذون صفة المبادرة، ويعتقدون أنهم ضَمِنوا حكومة عراقية أقرب إليهم من الحكومات السابقة، بما فيها حكومة مصطفى الكاظمي الحالية، إلّا أن الكلمة الفصل في مآل التطوّرات المقبلة، تبْقى للصدر، باعتباره صاحب أكبر كتلة برلمانية لحزب واحد، ما يعطيه الكلمة الأولى في اختيار رئيس الحكومة المقبلة. وحتى الآن، أظهر الرجل ميْلاً لمسايرة التحالف الإقليمي - الدولي المُشار إليه، وإن كان تعهَّد بأن لا يكون العراق معادياً لإيران. لكن ما يهمّ ليس التعهّد الذي يمكن أن لا يكون الصدر قادراً على الالتزام به، خاصة إذا استغلّ التحالف المذكور، الفجوة التي صار «التيار الصدري» يمثّلها في الداخل العراقي، وفي «الصفّ الشيعي» تحديداً. وحده الضغط يمكن أن يقنعه بأن في الذهاب في هكذا خيار، مخاطرَ كبيرة على استقرار العراق، وبالتالي على مشروعه للحُكم، وهو الضغط عينه الذي أدّى به حتى الآن إلى العودة خطوة إلى الوراء، مقابل كلّ خطوة خطاها إلى الأمام.