خلْف المباريات المثيرة لدوري إنكلترا الممتاز لكرة القدم، والذي يعرفه الناس باسم «بريميرليغ»، ثمّة تاريخ طويل من اللعب غير النظيف، والمُلوَّث أحياناً كثيرة بالدماء. وعليه، ليس غريباً على هذا الدوري الذي ما فتئت تُلطّخه ذكريات «الهوليغانز»، أن يكون مطيّة لديكتاتوريين من الخليج، مِمَّن يسعون لتلميع صورهم. ما إن أُعلن النبأ «السعيد» بشأن استحواذ صندوق الاستثمارات العامّة السعودي على نادي «نيوكاسل يونايتد»، حتى تقاطَر «هوليغانز» النادي، ومعهم حفنة من أصحاب الحانات العطاشى للمال، للاحتفال بالمواسم الواعدة، لابسين الغترات والعُقْل العربية، في تحدٍّ لِمَن حاول خلال العامين الماضيين عرقلة الصفقة. دائماً ما تنتهي الأمور هكذا، على طريقة الديمقراطية الإنكليزية. عندما تنسدّ السبل، يخرج من يقول: «نحن نحتاج إلى المال». وفي حال صفقة «نيوكاسل»، خرجت أمانة المشجّعين لتقول لمعارضي الصفقة الكثر، بسبب ارتباط صندوق الاستثمارات السعودي، مباشرة، بوليّ العهد محمد بن سلمان: «حسناً، نحن نتفهّم مخاوفكم ونوافق عليها، لكنّنا نريد الصفقة، كون النادي يعاني والمدينة أيضاً تعاني من إجراءات تقشّف ما بعد بريكست وهي تحتاج إلى المال السعودي». وهذا كلّ ما كان يحتاج له بوريس جونسون الذي يعمل منذ عامين، من دون نجاح، على إتمام الصفقة. وهذه الحجج نفسها تُستخدم في تمرير السلطات البريطانية صفقات السلاح السرّية للسعودية والتي تحصل بموجبها المملكة على أسلحة فتّاكة، تستخدمها في جرائمها في اليمن، على رغم معارضة الإنكليز العاديين الشديدة لتلك الصفقات.كان دائماً لهذه اللعبة المثيرة لحماسة مئات الملايين من البشر، جانب مظلم، الكلمة فيه للمال، بدءاً من تلاعب مكاتب المراهنات بالنتائج، مروراً بالاشتباكات الدامية بين «الهوليغانز»، وصولاً إلى موضة استيلاء الأنظمة الخليجية على الأندية الكبرى، عبر صناديقها السيادية التي ملأتها فوائضها النفطية، فطفقت تبحث عن مساحات للاستثمار المالي والتأثير السياسي، لكن دائماً ضمن القواعد التي يتحكّم بها الغرب، سواء تَعلّق الأمر بشراء مبنى ذي أهمية، أو لوحة فنية، أو نادٍ رياضي، أو سندات خزينة أو أسهم في شركة. والدليل أن ابن سلمان انتظر عامين حتى نال الموافقة على الصفقة. الصناديق تلك، بدخولها عالم الكرة، تتطفّل على حياة الناس، وتَستخدم شغف الفقراء بلعبتهم لتحقيق مراميها الدنيئة، وتتلاعب بأحلام الصغار في أرجاء الكرة الأرضية كافة - من مدن الصفيح في البرازيل والأرجنتين والأوروغواي وكولومبيا وغيرها، إلى مخيّمات غزة وأحياء القاهرة - بأن يصبحوا يوماً مثل نجومهم المحبوبين. هي لعبة ابتسام الحظ التي يحلم بها كلّ طفل فقير، وذووه، ويهتف على نبضها الجميع ويهلّل، يسرقها أمثال محمد بن سلمان لأخذها إلى عالم الجرائم السفلي. ولأنها كذلك، ستظلّ الكرة تقاوم إغراء المال المملّح بالدم، مثلما فعل كريستيانو رونالدو حين رفض مطلع هذا العام عرضاً سعودياً قيمته 5.3 ملايين جنيه استرليني، ليكون الوجه الإعلاني للترويج للسياحة السعودية على طريقة تركي آل الشيخ، ومثله فعل ليونيل الميسي الذي قُدّم إليه العرض نفسه، ولم تتجرّأ السعودية على الكشف عن جوابه الرافض في حينه.
ما كان ممكناً إتمام هذه الصفقة لولا قطر، التي يبدو أن ابن سلمان صار يلجأ إليها كلّما استعصى عليه أمر


الرفض هذا يشي بأن عملية التلميع لن تكون سهلة، خصوصاً في ظلّ توسّع حالة الرفض البريطاني للصفقة. إذ شكّكت الصحافة في دوافع السماح بإتمامها، ورَثَت الحال التي وصلت إليها السلطات الإنكليزية، اللاهثة للحصول على المال. وأطلقت الأندية الإنكليزية، التي أغاظها اللعب السعودي غير النظيف والذي سيلوّث بلا أدنى شكّ واحداً من أقوى دوريات كرة القدم في العالم كلّه، بدورها، حملة معارضة للصفقة. وعلى رغم أنها لن تستطيع إبطالها، إلّا أن تلك الحملة ستؤثّر بالتأكيد على عقد الصفقات مع «نيوكاسل»، لناحية إمكانية رفض عدد من اللاعبين والمدرّبين الانضمام إليه. وعليه، قد لا يستطيع ابن سلمان الصعود بالنادي من الوضع المزري الذي هو فيه، حيث لم يَفُز بأيّ لقب منذ عام 1955. وإذا فشل الأمر، سيبقى كلّ من طرفَي الصفقة في حضيضه، فلا تتلمّع صورة ابن سلمان ولا يُنتشل النادي من أزمته.
المفارقة أنه ما كان ممكناً لابن سلمان إتمام هذه الصفقة لولا قطر، التي يبدو أن ولي العهد السعودي صار يلجأ إليها كلّما استعصى عليه أمر. إذ كان يَلزم، للاستحواذ على «نيوكاسل»، إسقاط قطر دعوى ضدّ السعودية لقرصنتها قنوات «بي إن سبورت» التي تملك حق حصريّة البثّ للدوري الإنكليزي، أثناء سنوات الخلاف الخليجي، وهو مشروع أشرف عليه سعود القحطاني، ويقول معارضون سعوديون إن الرياض دفعت مليار دولار للدوحة لتسويته. لكن الأمر يتجاوز ذلك، إلى نمط جديد في العلاقات، حيث باتت السعودية تعتمد على قطر في أمور كثيرة، والأخيرة تستجيب لها. وكان حضور الرئيس التنفيذي لقنوات «بي إن سبورت»، رئيس نادي «باري سان جيرمان» ناصر الخليفي، مباراة السعودية واليابان قبل أيام، إيذاناً بالغبطة القطرية بهذا الدور الجديد. وهو ما تدلّ عليه أيضاً موافقة الخليفي على تنظيم مباراة بين نجوم ناديَي «الهلال» و«النصر» السعوديَين، و«باريس سان جيرمان»، في 20 كانون الثاني المقبل، في إطار فعاليات موسم الرياض، التي يشرف على تنظيمها تركي آل الشيخ، بدعم من «سموّ سيدي» كما يحلو له القول عند الإشارة إلى ابن سلمان. وفي إشارة ثالثة، اختير مدرّب «آرسنال» السابق والمحلّل الدائم على قنوات «بي إن سبورت»، الفرنسي آرسين فينغر، مدرّباً لنجوم «الهلال» و«النصر» خلال هذه المباراة.
كذلك، كان للمعارضة السعودية في المنفى اللندني دور في تأخير الصفقة. وفي هذا الإطار، يقول رئيس حزب «التجمع الوطني السعودي» المعارض، يحيى عسيري، على «تويتر»: «حاولنا إيقاف الصفقة لأنها غير أخلاقية، ونجحنا في تأخيرها كثيراً، وفي إرهاق السلطة السعودية والنادي، وكانت السلطة تقاوم بأموال الشعب المسروقة ونحن بالأخلاق والقيم، لكن النادي ومَن خلفه أغراه المال، وتحتفل السلطة الآن بالصفقة وبعارها، ونحن نفخر بمقاومتنا ودفاعنا عن الحقوق والشعب». من جهتها، أشارت المعارِضة مضاوي الرشيد إلى أن الدوري الإنكليزي لا يمانع، على ما يبدو، أن يصبح ساحة نزال بين الديكتاتوريين، إذ سيكون «نيوكاسل» بعد الصفقة منافساً لنادي «مانشستر سيتي» الذي يملكه منصور بن زايد آل نهيان. والجدير ذكره، هنا، أن منظِّمة صفقة «نيوكاسل»، أماندا ستيفلي، هي نفسها التي نظّمت صفقة شراء ابن زايد لـ«مانشستر سيتي» في عام 2008، وأنها بدأت التحضير للعقْد السعودي في عام 2017، قبل أن تنهار جهودها في 2018 إثر اغتيال جمال خاشقجي.