مفاجآت من العيار الثقيل حملتها الانتخابات النيابية العراقية، والتي يُحتمل أن تزيد من حالة الانسداد في المشهد السياسي، المقبل في ما يبدو، على تصعيد سيقوده تحالف «الفتح» وحلفاؤه مِن الذين خسروا وزنهم في برلمان 2021. وإن كان من المبكر استشراف مآل مرحلة ما بعد الانتخابات، إلّا أن مخاضاً عسيراً ينتظر تشكيل الحكومة، في ظلّ اكتساح «التيار الصدري» مقاعد البرلمان، وعودة المالكي لتصدُّر المشهد وقيادة معارضي «الصدريين». عودةٌ ستؤرّق بلا شكّ «الرئيس التوافقي»، مصطفى الكاظمي، كونها تشكِّل تهديداً لاحتمال تسميته مرّة ثانية، فيما يفضّل هو الاتكال على «التسويات» التي لا تزال ظروفها مواتية
إثرَ كلّ انتخابات برلمانية، يتبيّن أن المشهد السياسي العراقي عصيّ على الخروج من حالة الانسداد، وأن التعقيدات والخلافات الحادّة باتت جزءاً بنيويّاً من عراق ما بعد 2003. ولعلّ الثابت الوحيد بعد النتائج الأوّلية المعلَنة، أن مقتدى الصدر أصبح رجل العراق الأوّل، الذي كلما تفرّد، ازداد خصومه شراسة وتكتلوا بعضهم على بعض. وبعدما كان لتحالف "الفتح" الممثّل لـ"الحشد الشعبي"، الكلمة الأولى في انتخابات عام 2018، كتحالف لـ"مواجهة" الصدر، عاد نوري المالكي ليتصدّر المشهد، وليقود معارضي "التيّار الصدري".
على أن العقدة الأساس لم تعد في عدد المقاعد البرلمانية، بل في ما يبدو أنه بداية اشتباك قاسٍ داخل "البيت السياسي الشيعي"، بدأت تنجلي ملامحه في تصعيد قوى أساسية من مثل "الفتح" وثنائي "تيار الحكمة ــــ ائتلاف النصر" (عمار الحكيم ــــ حيدر العبادي)، اللذين أعلنا رفضهما النتائج الأوّلية، ولوّحا بالذهاب نحو الطعن فيها. على هذه الخلفية، تؤكد مصادر مقرّبة من هذا الفريق أنها لن ترضى بما سمّته "جوائز ترضية"، ذلك أن "الخروقات والسرقة أكبر بكثير". ويدور الاشتباك الثاني حول ما أعلنه الصدر قبل الانتخابات، أي العمل على تشكيل "حكومة صدرية" تَرِثُ "الحكومات الحزبيّة وحكومات المستقلّين".
أما مصطفى الكاظمي، المرتاح نظريّاً لخسارة مَن تعاطوا معه كخصم أو رئيس موقّت (الفتح)، فيرى في صعود المالكي تهديداً لاحتمال مجيئه رئيساً لفترة ثانية، إلّا أنه يعوّل، في الوقت ذاته، على "التسويات"... التسويات نفسها التي جاءت به رئيس وزراء لولاية أولى، والتي يبدو أن ظروفها لا تزال مواتية، راهناً، في ظلّ عمليات فكّ الاشتباك الإقليمي، أو، في الحدّ الأدنى، ربط النزاع السعودي ــــ الإيراني، كما الإيراني ــــ الأميركي. لهذا، قد يصل العراقيون إلى خلاصة مفادها بأن لا مناص من التفاهم، أي من تشكيل حكومة يشترك فيها الجميع، ويرأسها الكاظمي أو شخصيّه تشبهه. خلاصةٌ ستعمل قوى إقليمية وصديقة لأطراف داخلية مختلفة، على التوّصل إليها. لكن قبل بلوغ المرحلة هذه، سيمرّ العراق بمخاض صعب يحتاج إلى أسابيع طويلة حتى تتمظهر نتائجه.
نتائج الانتخابات التشريعية الخامسة، منذ الغزو الأميركي، حملت مفاجآت من العيار الثقيل، محدثةً ردود فعل عنيفة، لعلّ أبرزها رفْض تحالف "الفتح" ومَن يدور في فلكه ما أفرزته الدورة المبكرة، من تراجع استثنائي لتمثيله في برلمان 2021، بعدما كان القوّة الثانية في البرلمان المنتهية ولايته، علماً بأن هذا التيار يبقى لاعباً بارزاً لا يمكن الالتفاف عليه في بلد يطبع الانقسام السياسي الحادّ المشهد فيه. ويفتح إعلان رئيس التحالف، هادي العامري، عدم القبول "بهذه النتائج المفبركة مهما كان الثمن"، و"(أننا) سندافع عن أصوات مرشّحينا وناخبينا بكلّ قوّة"، الطريق أمام مفاوضات شاقة بين الكتل السياسية الساعية للهيمنة على الهيئة التشريعية.
يبدو أن الكتلة الصدريّة ستكون في موقع يسمح لها بالضغط في اختيار رئيس للوزراء


ومن مجموع أكثر من 25 مليون عراقي يحقّ لهم التصويت، أدلى حوالى 9 ملايين منهم بأصواتهم (41%، باحتساب الناخبين من حملة البطاقة البايوميترية، وليس إجمالي مَن يحقّ لهم التصويت، نظراً إلى غياب لوائح الشطب في العراق) في أكثر من 55 ألف محطة انتخابية موزعة على 8273 مركزاً انتخابياً لاختيار 329 نائباً لمجلس النواب الجديد. ووفق النتائج غير النهائيّة، والتي قالت "المفوضية العليا للانتخابات"، أمس، إنها ستُعلن بعد حسم الطعون، تصدّر "التيار الصدري" النتائج بـ 73 مقعداً، فيما حصلت كتلة "تقدم"، بزعامة رئيس البرلمان المنحلّ محمد الحلبوسي، على 38 مقعداً، وحلّت في المرتبة الثالثة كتلة "دولة القانون"، بزعامة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي (2006-2014)، بـ 37 مقعداً، ثم "الحزب الديموقراطي الكردستاني" بـ 32 مقعداً، وتحالف "عزم" بزعامة خميس الخنجر بـ 15 مقعداً. في المقابل، خسر تحالف "الفتح" نحو ثلثَي مقاعده، بحصوله على 14 مقعداً، بعدما كان ممثَّلاً، في البرلمان المنحلّ، بـ 47. ومن المفاجآت الثقيلة أيضاً، حصول "تحالف قوى الدولة" الذي شكّله كلّ من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وزعيم "تيار الحكمة" عمار الحكيم، على 4 مقاعد فقط، بعدما كانا ممثَّلَيْن بـ 61 مقعداً. على هذه الخلفية، أعلن الإطار التنسيقي لتحالف "الفتح" وائتلاف العبادي عزمه على الطعن بالنتائج و"عدم قبولنا بها وسنتّخذ جميع الإجراءات المتاحة لمنع التلاعب بأصوات الناخبين"، فيما اعتبر الناطق باسم "كتائب حزب الله"، أبو علي العسكري، أن "ما حصل في الانتخابات يمثّل أكبر عملية احتيال والتفاف على الشعب العراقي في التاريخ الحديث"، مضيفاً إن "الإخوة في الحشد الشعبي هم المستهدَفون الأساسيون، وقد دُفع عربون ذبحهم إلى مَن يريد مقاعد في مجلس النواب، وعليهم أن يحزموا أمرهم وأن يستعدّوا للدفاع عن كيانهم المقدّس".
ومع بدء "المفوضية الانتخابية العليا" بتسلّم الطعون، أكد رئيس مجلس المفوضين، جليل عدنان، أن "النتائج المعلنة ليست نهائية"، لافتاً إلى أن "غداً أو بعد غد سيكون هناك أكثر من 3 آلاف صوت سيتمّ عدّها وفرزها أمام الجميع لإضافتها إلى النتائج المعلنة". من جهتها، أشارت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة العملية الانتخابية، فايولا فون كرامون، ردّاً على سؤال حول الاتهامات بالتزوير، إلى أنه "يمكن الطعن بالنتائج، لكن ما لاحظناه من الناحية التقنية هو أن (العملية) كانت هادئة ومنظّمة، لم يكن هناك شوائب على الصعيد التقني في معظم مراكز الاقتراع التي جرت مراقبتها خلال يوم الانتخابات".
ويبدو أن الكتلة الصدرية ستكون في موقع يسمح لها بالضغط في اختيار رئيس للوزراء، فيما يرى مراقبون أن تشرذم مقاعد البرلمان سيؤدّي إلى غياب غالبية واضحة، الأمر الذي سيُرغم الكتل على التفاوض لعقْد تحالفات من أجل اختيار خليفة للكاظمي. وفي خطاب "النصر"، تحدَّث مقتدى الصدر ليرحِّب بجميع السفارات طالما أنها لا تتدخّل في الشؤون العراقية، داعياً إلى "حصر السلاح بيد الدولة ومنع استخدامه خارج هذا النطاق، وإن كان مِمَّن يدّعون المقاومة". وقال: "الحمد لله الذي أعزّ الإصلاح بكتلته الأكبر، كتلة عراقية لا شرقية ولا غربية"، في إشارة إلى تصدّر كتلته واستقلاليتها المفترضة عن كل من إيران والولايات المتحدة. كما تعهد بمحاربة الفساد، "وإزاحته بدمائنا إن اقتضت الضرورة، فهلمّوا إلى ورقة إصلاحية لا تقاسم فيها للسلطة على مصالح الشعب".