ليست انتخابات العراق غداً حدثاً عادياً، حتى وإن جاءت بالقوى السياسية نفسها، بأحجامها الحالية، أو أصغر أو أكبر قليلاً. وحتى إن كانت القوى الجديدة التي ستدخل البرلمان أوّل مرّة، محدودة الحجم، ولا سيما أبناء العشائر من داخل الأحزاب أو خارجها، الذين ضَمِن لهم قانون الانتخاب القائم على الدوائر الصغرى (83 دائرة) والصوت الواحد، حصّة ما سلفاً. الانتخابات هذه مصيرية وتغييرية، وإن لم يكن - بالضرورة - بالمعنى الإيجابي للكلمة؛ فإمّا يتمكّن العراقيون من استثمار رحيل الاحتلال في نهاية العام الجاري لبناء غدٍ أفضل، أو على الأقلّ إدارة شؤونهم بصورة معقولة؛ وإمّا يذهب البلد نحو احتمالات قاتمة، تستحضر ماضيه القاسي، الذي ولّد هذا القدر الهائل من البؤس، بدءاً من زمن صدام حسين بحروبه الكثيرة وسنوات حصاره الطويلة، إلى زمن الاحتلال الذي أجهز على بنى الدولة والقوى الأمنية، إلى زمن ذبّاحي «داعش» الذين بنوا «خلافة» اختطّوا حدودها بالدماء، ولم تَمحُها إلّا دماء المقاومين العراقيين الذين وضعوا البلد على طريق الخلاص، فإذا بسياسة المصالح والتحاصص، تعيده إلى مربّع الأزمة الأول، بعد أن عاثت فيه فساداً لم يَعُد يُطاق. ثمّ جاء «تشرين العراقي»، ليندثر بسرعة في دهاليز مجموعات «المجتمع المدني» المموَّلة بجزء كبير منها خليجياً وغربياً، بهدف نقل البلد إلى الموقع الآخر، التحاقاً بركب التطبيع الخليجي - الإسرائيلي، وضرباً للمقاومة التي لا رهان سواها، إذا أراد العراقيون إخراج بلدهم من طاحونة الأزمات.المعادلة واضحة: تدنّي نسبة الاقتراع يعني حُكماً إعادة القوى السياسية نفسها إلى المجلس، ولو بشرعية أقلّ، والأمر سيّان بالنسبة إلى هذه القوى، ما دامت العودة تفي بالغرض قانونياً. وفي الوقت عينه، يبدو يأس العراقيين من تلك القوى كفيلاً بخفض نسبة الاقتراع. لذا، فالرهانات ليست كبيرة على أن تَنقل هذه الانتخابات العراق إلى حال أفضل. غاية الأمل هو أن لا تؤدي إلى مزيد من شرذمة الساحة العراقية، واتّساع الصراعات داخلها، ونقلها إلى العشائر والشوارع بعدما كانت مضبوطة داخل الحكومة والبرلمان. وعلى رغم أن بيان آية الله علي السيستاني، الداعي إلى المشاركة في الانتخابات، يستبطن دعوة إلى التغيير، بحَضّه الناخبين على الاستفادة من تجارب الماضي، إلّا أن المرجعية تدرك حدود تأثير بيانات كهذه، خصوصاً أنها لم تأخذ صفة الإلزام، واكتفت بالقول إن الانتخاب هو الطريق الأسلم للتغيير، على رغم النواقص. ومع ذلك، فإن كثراً في «البيت الشيعي»، المنقسم على نفسه، وعلى رأسهم «التيار الصدري» و«تحالف الفتح»، يراهنون على أن تؤدّي دعوة السيستاني إلى رفع نسبة الاقتراع.
تدنّي نسبة الاقتراع يعني حُكماً إعادة القوى السياسية نفسها إلى المجلس، ولو بشرعية أقلّ


المشكلة أن العراقيين يشعرون باستحالة التغيير عبر الانتخابات، في بلد تُستخدم ثرواته الهائلة في شراء الولاءات، لا في التنمية، وتُنفَق إضافة إليها أموال طائلة من الخارج بهدف التأثير في الوجهة التي سيسلكها البلد بعد رحيل الاحتلال، خصوصاً أن الأخير سيترك فراغاً أمنياً وسياسياً ما، يَتعيّن سدّه. وهذا يثير تنافساً بين قوى إقليمية تخوض نزاعات غير مباشرة بين بعضها البعض، تستدعي منها تعميق تدخّلها في العراق، وخاصة على الساحة «السُنّية»، حيث تتصارع علناً، الإمارات والسعودية من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى، على إيصال حلفائها إلى مجلس النواب، وهو ما يمثّل نذير شؤم، على اعتبار أن الأطراف المذكورة كلّها متورّطة في اللعبة الدموية في هذا البلد من بوّابات الإرهاب والتوغّلات العسكرية والتحريض الإعلامي.
في خضمّ ذلك، يجري الحديث عن مقاطعة للانتخابات من قِبَل قوى جديدة، مِن مِثل بعض «مجموعات تشرين»، أو قديمة كجماعتَي إياد علاوي وصالح المطلك. والمقاطعة إنّما هي تعبير صريح عن فشل «قوى تشرين» في تشكيل بديل أو شريك للقوى السياسية، أو حتى تكوين إطار ساعٍ للتغيير، واعدٍ بالنسبة إلى العراقيين، وهو ما يُردّ إلى أن هذه القوى نفسها مشتّتة ومتشرذمة، بتشتّت أهواء مكوّناتها وارتباطاتهم الخارجية والداخلية، فيما تُقرّ القوى القديمة التي لجأت إلى هذا الخيار بعجزها عن التغيير. لكن المقاطعة الحقيقية يُرجّح أن تكون مِن النسبة الأكبر من الشعب، الذي ما زال لا يشعر بأن التغيير يمرّ عبر صناديق الاقتراع، لأنه لا يجد بين القوى السياسية، الجديدة والقديمة على السواء، من يلبّي طموحه، ويستجيب لمطالبه. على أيّ حال، فصّلت القوى السياسية قانون الانتخابات على قياسها، وبالتحديد القوى التي تهيمن على الحكومة حالياً. وإذا كان رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، ليست لديه لائحة مرشّحين، فالمتوقّع أن يساعده التفتيت في العودة إلى رئاسة الوزراء، لصعوبة الاتفاق على مرشّح آخر، وكونه أنشأ صلات مع الكثير من القوى المحلية والإقليمية، بما فيها إيران والسعودية اللتان تستضيف بغداد حوارات متواصلة بينهما برعايته. والكاظمي أوّل شخص يخوض تجربة السعي للعودة إلى رئاسة الوزراء من خارج البرلمان، بعدما درجت العادة على أن يكون رئيس الوزراء هو رئيس أكبر كتلة برلمانية أو ثاني أكبر كتلة على أقلّ تقدير، لكن سقوط عادل عبد المهدي في الشارع في تشرين 2019 كسر هذه القاعدة.
ستستفيد بعض القوى القديمة المترسّخ وجودها، والتي تملك إمكانات مالية وماكينات انتخابية كبيرة، من غياب أيّ ديناميكية للتغيير الذي ينشده جميع العراقيين. وفي ظلّ هذا الغياب، سيكون حضور الرقابة الدولية مجرّد شاهد على إعادة القوى السياسية إنتاج نفسها، بغير الاضطرار لارتكاب المخالفات الانتخابية، إلّا حيث ينافس بعضها بعضاً، وهو ما يُرجّح أن تشهده هذه الانتخابات، من دون أن يكون له تأثير حاسم في نتيجتها. وسيؤدي القانون الجديد إلى ظهور قوى جديدة، إلّا أن الأغلب اندراجها ضمن فئتَي النواب المستقلّين أو المنتمين إلى العشائر التي ستتمكّن من إيصال عدد من أبنائها إلى الندوة البرلمانية. كما أن القانون سهّل على المموّلين الخارجيين والقوى السياسية المحلية ذات الإمكانيات العالية، استخدام تلك الإمكانيات بكفاءة أكبر. لو كان العراق بلداً فقيراً، لأمكن القول إن ما يجري فيه اليوم يتناسب مع موقعه الجغرافي وانتمائه إلى العالم النامي، إلّا أن بلداً ينتج 4.5 ملايين برميل نفط يومياً، حالياً، ويُتوقّع أن تصبح 8 ملايين بحلول عام 2027، بفضل الاستثمار في الإنتاج، يجدر به أن يكون من بين الدول الغنية مثل جيرانه في الخليج، وأن يفوقهم لكونه أكثر انفتاحاً وذا مجتمع أقلّ اعتماداً على النفط.