رام الله | السيارة الآتية من غزّة تقترب من المعبر أقصى شمالها. تظهر الطريق خالية من كل شيء حولها. تصل نقطة تفتيش تابعة لحكومة حماس التي تسيطر على القطاع منذ عام 2007. بعد لحظات تبدأ عملية السفر التي تتضمن الولوج من خلال ثلاثة معابر فعلياً. ومن يعبر سيكون واحداً من 38 ألف فلسطيني مرّوا من «إيريز» في الربع الأول من العام الحالي.
في نقطة حماس غرفة جديدة تبنى على اليسار، وإلى اليمين منها غرفة صغيرة من الحديد فيها نافذة خلفها مكتب خشبي. كل ما يلزم تقديم الهوية الشخصية للشرطي الغزّي هناك، فيتأكّد من أن المسافر حاصل فعلاً على تصريح من الحكومة المقالة لدخول المعبر.
تنظر خلفك بعفوية لتجد سيارة خاصّة تمر عبر النقطة بلا تفتيش. الرجل بجانب السائق اكتفى بفتح نافذته حتى منتصفها. يده تمتد بأوراق يراها الشرطي من وراء النافذة، ثم بإشارة منه تمر السيارة. تحدّث نفسك: «بالتأكيد هو ناشط أجنبي أو ما شابه... لكن الناشطين الأجانب يعبرون بالطريقة نفسها التي نعبر بها غالباً».
تنسى التفكير في كيفية مرور ذلك الرجل، وتستقل سيارة أخرى توصلك إلى الجانب الفلسطيني الآخر من المعبر، وبالتحديد التابع للسلطة الفلسطينية في رام الله. هناك يستقبلك جهاز الارتباط المدني المسؤول عن التنسيق للمسافرين. ما إن تصلهم سيعرفونك فوراً. هم على دراية بك تماماً لأنهم يكونون قد حدّثوك قبل ليلة ليخبروك أنك حصلت على التصريح من الإسرائيليين.
لا تزال الذاكرة تحتفظ بمشهد بسيط لكنّه تراجيدي إلى حدّ بعيد؛ ففي التسعينيات كنّا نمر كل أسبوع بسيارتنا الخاصّة عبر «إيريز» ذاهبين إلى يافا والقدس ونعود في اليوم نفسه إلى غزّة. لم يكن كبار العمر يملون وصف حال المعبر قبل مجيء السلطة إلى القطاع، وتحديداً قبل اتفاق أوسلو. كان المشهد آنذاك: جندي إسرائيلي يجلس على كرسي خشبي يراقب المارّة وهو يعبث بجهاز راديو صغير في حجره ويدخّن سيجارة. هكذا بكل بساطة، كأن ذلك الجندي على الأغلب كان أفشل فرد في زملائه، فقرروا أن يرسلوه إلى مراقبة الحاجز غير المهم على حدود غزّة!
في النقطة الفلسطينية الثانية المسماة «5:5»، الإجراءات مسألة وقت. فما إن يُهاتف المسؤول في الارتباط زميله في الجانب الإسرائيلي ويخبره بالأسماء القادمة، حتى يردّ عليه الأخير بعدها بدقائق ليعطيه الموافقة على دخول الأفراد.
في الطريق الآن ممر طويل (حوالى كيلومتر) على المسافر أن يمشيه، أو إن توافرت عربة نقل يمكن الجلوس في إحداها ودفع 10 شواقل (3 دولارات). أثناء الطريق تظهر الجدران الخرسانية العالية التي غابت عن غزة لمدة طويلة، وعلى اليمين واليسار أبراج مراقبة أسطوانية الشكل لمراقبة كل شيء.

رام الله جنّة الهاربين
من جحيم غزة لكنها تملك أسوأ مدخل
هذا الممر هو نفسه الذي اعتاد اجتيازه يومياً ما يقارب 30 ألف عامل فلسطيني، وكان يستغرق عبوره مشياً 15 دقيقة، وفي الصيف هو أشبه بحمام شمسي، لذلك لقّبه العمال بـ«طريق الآلام»، وكانوا يصلونه فجراً لحجز دور لهم على المعبر. فعلياً، لم يكن هناك «أدوار»، فعندما يفتح الإسرائيليون الباب يتدفق الجميع مرة واحدة نحو البوابات، ثم تتكرر سلسلة الإذلال هذه كل يوم بالطريقة نفسها. استمرت الحال هكذا لسنوات طويلة قبل إغلاق المعبر كلياً في وجه العمال، مع الإبقاء على فتحه للأجانب والمرضى وأصحاب الحالات الطارئة وأعضاء الـNGOs وكبار التُجّار والشخصيات.
بعد الممر هناك أمامك أربعة أبواب صغيرة، يفتح عامل عربي أحدها وينتظر ليتسلم عبر جهاز اللاسلكي أمراً باللغة العبرية يفيد بالسماح للقادمين بالدخول. على الطاولة عليك وضع حقائبك وفتحها وتوجيهها نحو الكاميرات المعلقة التي تتحرك وتراقب كل شيء، ثم بعد إغلاق الحقائب يدخل العابرون إلى أبواب حديدية دوّارة، ثم تأتي أبواب المعبر الزجاجية الرئيسية، ومنها إلى البوابة الحديدية الثانية، وهكذا يمرّ المسافر إلى المبنى بعد رحلة البوابات الفاحصة. لا تتوقف المراقبة عند هذا الحدّ، فيأتي عامل عربيّ آخر مهمته وضع الحقائب بعد فتحها وبعثرتها في صناديق بيض مفتوحة لتدخل مع حزام الفحص الإلكتروني إلى غرف تفتيش داخلية.
اللافت أنه حتى اللحظة لا يمكن الفلسطيني أن يرى جنديّاً إسرائيلياً، بل يتعامل مع بوابات وأجهزة، أو عمال من جنسيات أخرى. بعد ذلك يجب دخول غرفة أسطوانية زجاجية طويلة يضع فيها الشخص قدميه على العلامات الصفر على الأرض وينظر إلى الكاميرا وهو يرفع يديه في الهواء. فجأة، عبر مكبّر صوت داخل الغرفة، تتحدث إحدى المُجنّدات بلغة عربية ركيكة، وتخبرك بأن عليك الالتفاف في عدة اتجاهات، فيدور قضيبان معدنيان حولك ثم يفتح لك باب الخروج من الجهة الأخرى. تخرج لترى الجندية التي كانت تحدثك قبل دقيقة لكنها موجودة في الطابق الثاني، فتلمحها عبر نوافذ كبيرة يظهر خلالها عدد من موظفي المعبر الإسرائيليين.
يتضح أن أسلوب المكاتب العالية جرى اتباعه بعد تعرض المعبر لعدد من الهجمات، منها عملية استشهادية عام 2004 كانت سبباً في هذا التحوّل الذي كلف خزينة الاحتلال ملايين الشواكل، وانتهى بناء المعبر الحالي وافتتح مجدداً في 2005.
لم تنته رحلة الفحص الأمني هنا، فهناك بعدُ سلسلة من الأبواب الإلكترونية الحديدية، كل واحد منها يحمل أضواءً خضراً وحمراً، ولا يفتح الباب إلا عندما يضيء اللون الأخضر، ثم عليك اتباع المسار المحدد لتجد نفسك في غرفة واسعة مع جندي أو جندية من وراء زجاج، يطلب منك خلع أجزاء من ملابسك.
يذكر مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزّة أن عدداً كبيراً من المرضى يجري ابتزازهم في غرف التحقيق على المعبر للعمل جواسيس للاحتلال، وهذا مناف للأعراف الدولية وفق المركز.
«دعونا نمُت في غزة بدلاً من هذا الإذلال. دعونا نمُت بشرف!»، هذه هي الصرخة التي تذكرتها لرجل احتجز لأيام مع نسائه وأطفاله داخل ممشى المعبر عام 2007 مع آخرين كانوا بعدما سيطرت حماس على القطاع، فهرب المئات إلى الضفة طلباً للحماية. كذلك لا أنسى موت امرأة فلسطينية مُسنّة على «إيريز» في شباط الماضي حينما كانت تنتظر إذناً للعبور إلى الضفة من أجل تلقّي العلاج لإصابتها بمرض السرطان.
كذلك شهد «إيريز» في الشهور الماضية عبور سيارات الـVIP الخاصة بوفد منظمة التحرير «للمرة الألف» إلى غزّة من أجل إنجاح جهود المصالحة، ثم دخلت صحيفة القدس عبره إلى قطاع غزّة بعد منع «الأشقاء» حضورها هناك لسبع سنوات، ومنه نفسه شوهدت صحيفة فلسطين التابعة لحماس تسافر نحو شوارع رام الله. إذن، ليس المواطن المغلوب على أمره والمضطر إلى العبور هو الملام الوحيد إن جابه الإسرائيلي كي يخرج إلى الشق الآخر من فلسطين. بعد كل تلك الإجراءات، يمكن الآن رؤية الجندي الإسرائيلي والتعامل معه مباشرة، حين يسلم تصريحاً لدخول الأراضي المحتلة ثم العبور إلى الضفة، علماً بأن مدة هذا التصريح 7 ساعات أو أقل، ثم عليك أن تكون في الجهة الأخرى من الوطن المحتل خلف الجدار.
لن يصدق الفلسطيني وهو يعبر وطنه المحتل أن كيلومترين يمكنهما أن يغيّرا معالم الأرض بهذه الطريقة، بل سيبقى يلصق رأسه في زجاج السيّارة ليشاهد أرضه المسلوبة ويبكي على الفردوس المفقود وهو يقرأ لوحات الطريق باللغة العبرية: (اشدود، حيفا، أورشاليم..)، وعسكرة الدولة على أرض الواقع وعنصريتها المستفزة.
المتدينون هنا وهناك كما المجنّدون والمجنّدات، لكن الأرض جميلة، ومشهد الجبال على فلسطيني من غزّة الساحلية لا يُقارن بشيء. هذه قُرى عربية مُهجّرة على اليمين واليسار. يحدث السائق المقدسي الركاب: «هنا وقعت معركة القسطل، وهنا استشهد عبد القادر الحسيني.. هناك يبنون مترو جديداً سيصل القدس بيافا وتل أبيب... نعم هنا قُتل وزير إسرائيلي. وهناك بلدية القدس. وهذا هو المسجد الأقصى!».
كل ما تقع العين عليه هو تحت تصرف وزارة الدفاع الإسرائيلية. متى ضاع كل هذا وعلى أي مفترق طرق نسي الثوار أن بضع باصات مفخخة كانت ستحل المشكلة حتّى قبل أن تُولد في الأربعينيات.
أما في رام الله، المدينة الأولى في الضفة والعاصمة التي يخجلون من إعلانها، سترى البلد الأول والأسرع عمراناً وتفتّحاً. هي مدينة الرقص المعاصر والشعبي والغربي والشرقي، وبلد الفرص وانخفاض مستوى البطالة، كما أنها أحياءٌ من التكدّس الاستخباري والنفوذ الرئاسي والسيطرة الإعلامية والمكاتب القيادية، لكنها أيضاً جنّة الهاربين من جحيم غزة، وتشارك الأخيرة في أنها المدينة التي تمتلك أسوأ مدخل يُمكن تخيّله على الإطلاق.
على أعتاب رام الله يجب المرور من معبر قلنديا أولاً. قد يُصادف حضورك وقت الذروة الذي يتمثل في عودة العمال وأصحاب التصاريح المنتهية. أزمة مرورية خانقة تمتد لكيلومتر داخل السور. تحتاج إلى أكثر من ساعة لتكون على الجهة الأخرى من الجدار. في ظاهر المدينة أنها منظمة، لكنها فوضوية جداً في آن واحد. ستكتشف لاحقاً أن تفسير هذا يعود إلى أن مدخلها الذي بدا كذلك يتبع لمنطقة تصنيف «ج».. ما هو التصنيف «ج»؟ لا يُعلم بعد.. حسناً، هناك الكثير على الغزي تعلمه في الضفة.. لكن هذه قصّة أخرى.




«بنت حلوة في المعبر»

في متنزّه «بات يام» في إسرائيل ينصب منتج أفلام قصيرة بصحبة مهندس صوت ومصور ومساعدتين سلكاً شائكاً صغيراً، ويضع علمين على الجهتين، واحد لفلسطين ويقابله آخر لإسرائيل. يبحث عن بالغين ليساعدوه في تمثيل فقرة هدفها بيان وضع أبنائهم الجنود على الحواجز والحدود. بعد مدة يجد متطوّعة من يافا. يبدأ بشرح الفكرة لها: أنت جندية في معبر إيريز، وإلى هذا المعبر يأتي فلسطينيون يريدون المرور إلى الضفة الغربية. يجب عليك أن تفتشي كل من يصل إلى الحاجز، وأن تقرري هل تدعينه يمر أم تعيدينه. قرري ما تشعرين أنه صواب، وسايري قلبك. أنا قائدك، وأعتمد عليك اعتماداً تاماً، وأدعمك في كل قرار تتخذينه.
تأتي فتاة صغيرة اسمها يارا لتمر، وتقول: «أريد الذهاب لرؤية جدّتي في رام الله». حينما اقتربت يارا من الجندية انطلقت الأخيرة تخطب خطبة عصماء عن فساد سهى عرفات وكبار مسؤولي حماس الذين يسطون على المال الذي يرسل إلى غزة من العالم كله ويتركون الفلسطينيين جوعى. بعد جدل طويل تقول الليكودية الشديدة الحماسة ليارا: «لأنني فتشتك وأعتقد أنك ماضية حقاً إلى جدتك ولا يوجد عليك أي شيء، تستطيعين الدخول».
تتردد يارا، فتقول الجندية: «كل شيء على ما يرام، ادخلي»، وتمد يدها إلى الطفلة وتساعدها على اجتياز الحاجز وتودعها بعناق. يتدخّل المخرج هنا ليقول للفتاة التي تلعب دور الجندية إنه لا يجوز وفق التعليمات لقريب ليس من الدرجة الأولى (أم أو أب أو أبنائهما) المرور من غزة إلى الضفة أو العودة منها، وإنهم ربما كانوا ليحاكمونها على ذلك في العالم الحقيقي. فتضع يدها عليه وتقول: «ماذا تريدني أن أفعل؟.. إنها في المحصلة العامة بنت حلوة ذاهبة لتزور جدتها!». فجأة جاءت سيارة شرطة تخبر الجميع بشكوى وصلتهم عن أفراد يحملون علم فلسطين وسط «بات يام»، وأن تلك أمور يمكنهم دفع ثمنها غالياً في منطقة كهذه!
القصة مترجمة كما رواها «إيتمار روز» في «يديعوت أحرونوت»