القاهرة | في إطار مخطّطها الهادف إلى رفع الدعم بشكل كامل عن جميع السلع والخدمات، استجابة لـ«وصفات» صندوق النقد الدولي، تتّجه السلطات المصرية إلى تحرير سعر رغيف الخبز، الذي لم يبقَ للفقراء غيره من بين أساسيات الحياة. توجّهٌ يهدّد بتعميق معاناة الفئات المعدَمة، وبإلحاق آلاف الأسر الإضافية بتلك الفئات، التي كانت قرارات زيادة الأسعار السابقة تكفّلت بتوسيعها على نحو كبير. وعلى رغم ما ينذر به القرار الأخير من غليان شعبي، إلّا أن السلطات تبدو ماضية فيه، مدفوعة بقناعة بإمكانية وضع المواطنين أمام الأمر الواقع، بعد إغرائهم بتحويل أموال الدعم نحو مشاريع تستهدف تحسين نوعيّة حياتهم
منذ انتفاضة 1977، ظلّ سعر رغيف الخبز في مصر يمثّل، دونما مبالغة، قضية أمن قومي. فعلى رغم إقدام الأنظمة المتعاقبة على تحريك أسعار الخدمات وزيادتها على فترات، بما في ذلك نظام عبد الفتاح السيسي الذي باشر خطّة ممنهجة مع "صندوق النقد الدولي" لرفع الدعم الكامل تدريجياً مقابل قروض ومنح، إلّا أن سعر رغيف الخبز، والبالغ 5 قروش تمثّل العملة الأصغر على الإطلاق بالجنيه المصري، لم يجرِ المساس به. صحيح أن ثمّة تعديلات طرأت في العقد الأخير على آلية توزيع الخبز، من بينها تخصيص كمّيات محدّدة للأسرة الواحدة، وصرفها وفق بطاقات خاصة بعدما كان تُصرف من دون أيّ أوراق، وغيرها من الإجراءات التي وفّرت مليارات الجنيهات، وآخرها تخفيض وزن الرغيف بأكثر من 20% من أجل تخفيف فاتورة الدعم التي تفوق 50 مليار جنيه للخبز فقط، إلّا أن الأمر لم يصل أبداً إلى عتبة رفع السعر كما قرّر السيسي أخيراً.
أثناء افتتاحه أحد مشروعات الجيش الخدمية، تحدّث السيسي في الأمر بطريقة حذرة للغاية، منتقداً تثبيت سعر الرغيف في الوقت الذي لم يَعُد يعرف الأطفال فيه ما هي الـ"5 قروش" أو "الشلن" كما يُطلق عليها، في مقابل وجود أعباء مالية أخرى بلا موارد، في مقدّمتها مشروع التغذية المدرسية للطلاب، والذي تهدف الحكومة من خلاله إلى توفير وجبات مجّانية للمدارس الحكومية، من أجل تحسين الحالة الصحّية لطلابها، خاصة في المناطق الفقيرة. ويستهلك المصريون أكثر من 300 مليون رغيف يومياً، بحسب الإحصائيات الرسمية، علماً أن منظومة الدعم الحالية تحدّد حصّة المواطن بـ5 أرغفة يومياً فقط، مع توفير حافز يتيح للمواطنين إمكانية الحصول على سلع تموينية بقيمة الخبز الذي لم يحصلوا عليه على مدار الشهر، في خطوة استطاعت من خلالها الحكومة غلق باب مهمّ للتلاعب بكمّيات الدقيق المنصرفة للمخابز.
لكن وصول الأمور إلى حدّ رفع سعر الرغيف، قد تكون له تداعيات أكبر بكثير من كلّ ما ولّدته القرارات السابقة التي اتّخذها الرئيس من قَبل. وفي ذلك هاجس عبّر عنه السيسي نفسه عدّة مرات، سواءً عندما تحدّث عن تلقّيه تحذيرات من "فتْح" هذا الموضوع علناً، مع نصائح بتركه للحكومة لكي تمهّد الأرضية للمواطنين، نظراً إلى كون القرار يمسّ 70% من المصريين بشكل مباشر وفوري، أو عندما عاد ليشرح "فلسفته" في زيادة السعر، والتي لن تكون كبيرة مقارنة بما تتحمّله الدولة، كما يقول. مبرّر "الجنرال" أن ما سيتمّ اقتطاعه من دعم الخبز سيُوجّه لتغذية الأطفال بوجبات "قيّمة" تلبّي احتياجاتهم الغذائية، بالإضافة إلى الإنفاق على العديد من المشروعات الأخرى التي يتمّ الترويج لها بشكل مكثّف لتكون واجهة رفع الدعم التدريجي المستمرّ، ومن بينها "حياة كريمة" الذي يهدف إلى توصيل المرافق للقرى والأماكن الأكثر فقراً. مبرّر آخر ساقه السيسي، يتّسق والمقارنات التي يعقدها باستمرار بين خدمات غير متكافئة؛ فعندما تحدّث عن سعر الخبز، قارن بين سعر الـ20 رغيفاً البالغ جنيهاً واحداً فقط، وسعر السيجارة الواحدة الذي يعادل جنيهاً أيضاً، في مقارنة غير منطقية، تستهدف القول إن السعر غير عادل بالنسبة إلى الدولة التي لم تَعُد قادرة على الاستمرار في المسار نفسه.
يتجاهل السيسي الأرقام الاقتصادية التي تتحدّث عن 5 ملايين شخص تحت خطّ الفقر


وعلى رغم الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي سيولّدها القرار عند تطبيقه فوراً، إلّا أنه لم يَجِد سوى ترحيب من جميع الأطراف الحكومية، التي سارعت إلى دراسة آلية التطبيق، وكذلك أصحاب المخابز الذين يأملون في مزيد من الامتيازات لتحقيق مكاسب مالية أكبر، والاقتصاديين الذين يصفّقون دائماً لقرارات الرئيس، من أجل تحسين أرقام المؤشّرات الاقتصادية التي يتباهى بها النظام عالمياً. على أنه من غير الواضح كيف سيواجه "الجنرال" تداعيات قراره، وهو الذي اضطرّ إلى تجميد قرار سابق بحذف نحو 12 مليون مواطن من منظومة الخبز والدعم، بعدما كان مُقرّراً دخوله حيّز التنفيذ عام 2019، بناءً على معايير من بينها امتلاك العقارات والسيارات الحديثة. إلا أن الغضب الشعبي، وتزامن التطبيق مع تصريحات المقاول محمد علي، دفعا السيسي إلى التراجع، وإعادة جميع المواطنين الذين جرى استبعادهم.
لكن هذه المرّة، يبدو أن السيسي قرّر خوض المعركة حتى النهاية، خصوصاً مع ترقّب حملة إعلامية يُفترض أن تبصر النور خلال أيام، بهدف تسويق "مزايا" رفع السعر، و"فوائده" للمواطنين والدولة، التي كانت تتحمّل دعم الرغيف بأكثر من نصف سعره، على اعتبار أن تكلفته فاقت 60 قرشاً، فيما يُباع في السوق بـ25 قرشاً أو أقلّ. وبالتوازي مع ذلك، بدأت الحكومة استعداداتها لتطبيق القرار قبل نهاية تشرين الأول المقبل، في إطار خطّة لإعادة توجيه المخصّصات المالية نحو بنود أخرى بدافع من العجز المالي الحادّ في الموازنة، فيما يلتزم البرلمان الصمت حيال توجيهات الرئيس، على رغم مخالفتها الموازنة المعتمَدة من قِبَل الأوّل، ولا سيما في ما يتعلّق بالدعم. وعلى رغم أن الحكومة لن تستطيع الإعلان بشكل واضح وصريح عن خطّة لرفع الدعم عن الرغيف بشكل كامل، على غرار ما فعلته في الكهرباء والمياه وجميع الخدمات الأخرى، إلّا أن السنوات الخمس المقبلة ستشهد زيادة تدريجية في سعر الخبز، تتناسب مع مخطّط تخفيف أعباء الموازنة العامّة للدولة، والتي باتت تُحقّق أرباحاً من المواطنين بـ"صفر دعم" للكهرباء مثلاً، وعائدات من بعض أنواع المحروقات تزداد سنوياً. وفي هذا الإطار، يعتقد السيسي أن التجربة في منظومة إنتاج الخبز وتوزيعه يمكن أن تنجح على غرار ما حدث في مرافق أخرى، من بينها مترو الأنفاق الذي وصلت الزيادة في سعر خدماته إلى 1000% خلال أقلّ من ثلاث سنوات. لكن، من المتوقّع أن لا تكون الزيادة الأولى على الخبز كبيرة، ارتباطاً بعدّة عوامل من بينها أسعار القمح عالمياً، وخاصة أن مصر تُعدّ أكبر مستورد للقمح في العالم، بالإضافة إلى كلفة فاتورة الدعم للرغيف الواحد، والتي تتحدّد بناءً على أسعار الكهرباء والمحروقات ونفقات التشغيل.
يتجاهل السيسي الأرقام الاقتصادية التي تتحدث عن 5 ملايين شخص تحت خطّ الفقر، يمثّل الخبز بالنسبة إليهم أساس الحياة، ما يعني أن ارتفاع سعره سيؤدّي إلى تعميق معاناة الفئات الفقيرة التي تمثّل نحو 30 % من المصريين بحسب الإحصائيات الرسمية. وكانت الزيادات السابقة في الأسعار، والتي ترافقت مع تثبيت الرواتب في القطاع الخاص، تسبّبت بإلحاق آلاف الأسر بتلك الفئات. هكذا، يأتي قرار رفع سعر الرغيف ليعكس حالة الانفصال عن الواقع، فيما يُنذر تطبيقه بغليان شعبي ربّما يحمل النظام على إعادة النظر فيه. من جهة أخرى، تُعبّر خطوة الرئيس المفاجئة، على رغم تمرير موازنة العام المالي بعد مناقشتها في مجلس النواب، عن سياسة التفرّد التي يمارسها السيسي إزاء الأجهزة كافة، حيث يعمل الرجل على إعادة تخطيط شكل الدولة كما يريد، وفي أيّ توقيت يريد، من دون الالتزام بدراسات وخطط موضوعة. كما يتعامل مع الموازنة ومشاريع الحكومة باعتبارها أموراً خاصة يمكن أن يعيد فيها توجيه الإنفاق كيفما يشاء. لكن هذه المرّة، ستسبق صدورَ القرار مراجعةُ التقارير التي تُعدّ للعرض على الرئيس، حول ردّ الفعل المحتمل في الشارع، والتي بدأ إعدادها اعتباراً من يوم أمس، ليتمّ على أساسها تحديد الزيادة الأولى، في ما يمثّل سابقة في طريقة تعامل النظام مع تغيير الأسعار، وخاصة أن قرارات الزيادة السابقة كانت تُعلَن بعد اتّخاذها وليس مع بدء دراستها. فهل سيقلّل الغضب الشعبي الذي انفجر، أوّلاً، على مواقع التواصل الاجتماعي، من حجم الزيادة التي سيُدشّن بها تحرير سعر الرغيف؟