بغداد | يعيش العراقيون، هذه الأيّام، أسوأ لياليهم، بسبب أزمة كهرباء أغرقت البلد بكامله، باستثناء إقليم كردستان، في عتمة شاملة، بالتزامن مع موجة حرّ تجاوزت خلالها درجات الحرارة الـ50 مئوية. أزمة متجدّدة لا يبدو، في كلّ مرّة تتكرّر فيها، أن ثمّة شخصاً ما يمكن إدانته ومحاسبته عليها، أو حتى تعليق مشنقته في وسط بغداد، أو أن هناك جهة واحدة أو حكومة واحدة يمكن تحميلها دون غيرها مسؤولية هذا البلاء. ذلك أن الحكومات كلّها مسؤولة، وأن كلّ من عمل في السياسة مسؤول أيضاً. فقد يكون مفهوماً وجود فساد في قطاعِ كهرباء في بلدٍ عاش سلسلة حروب، وقد يكون مفهوماً وجود مشاكل تقنية هنا أو هناك، لكن أن يقع البلد بكامله تحت ظلام تامّ بسبب نقص الوقود الذي يتمّ تزويد محطّات التوليد به، وهو يعوم على أحد أكبر احتياطات النفط في العالم، فهذا ما لا يمكن تفسيره وفق أيّ منطق.التيار الكهربائي انقطع في بغداد والمحافظات الأخرى كافة منذ منتصف ليل الخميس إلى الجمعة، من دون أن يعرف أحد الأسباب المباشرة، فيما اقتصرت معالجة رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، للأزمة، قبل قبوله استقالة وزير الكهرباء ماجد حنتوش، على إصدار بيان إنشائي يطرح حلولاً نظرية فقط، مِن مِثل تشكيل خلية أزمة تتولّى "اتخاذ إجراءات فورية لزيادة ساعات التغذية"، و"الدعم المالي والفنّي واللوجستي والأمني لوزارة الكهرباء"، و"إشراك الحكومات المحلية في الإنتاج والتوزيع"، و"تسريع الإجراءات العملية لدعم وتشجيع استخدام الطاقات المتجدّدة". لكن هل يستطيع مَن أمضى ليلته بلا تبريد في بغداد أو أيّ من المدن العراقية أن ينتظر تطبيق ما ورد في هذا البيان؟ وهل هذه هي المرّة الأولى التي يُصدر فيها رئيس وزراء عراقي بياناً كهذا ، ولا يجد أيّ مما ورد فيه طريقه إلى التطبيق؟ لا أحد من المواطنين يأمل في إيجاد حلّ لمشكلة الكهرباء، على رغم الاحتجاجات والتظاهرات التي ينظّمها المواطنون للمطالبة بتحسين تلك الخدمة، ولا يحصلون بنتيجتها سوى على وعود لا يُنفَّذ منها شيء.
وعندما تكون الأزمة بهذا الحجم، فلا يمكن للبدائل الأهلية أن تغطّي النقص ولو جزئياً، فضلاً عن كلفتها العالية التي لا يستطيع الكثير من العراقيين تحمّلها. فأصحاب المولّدات الخاصة التي تعمل بوقود الديزل، يرفعون الأسعار على المشتركين كلّما زادت ساعات انقطاع التيار، كما يعمدون إلى إراحة مولداتهم أو صيانتها، تاركين المشتركين فريسة للقيظ. ويُكلّف "الأمبير" الواحد 15 ألف دينار عراقي، أي أكثر قليلاً من عشرة دولارات، ما يعني أن فاتورة المنزل الذي يشترك بعشرة "أمبيرات" في المولّد الخاص، وهو الحدّ الأدنى الضروري لتشغيل مكيّف هواء واحد أو اثنين، تزيد عن 100 دولار شهرياً، في حال كان الانقطاع بحدود 16 ساعة يومياً. وعن ذلك، تنجم مشكلة لدى وزارة الكهرباء في الجباية من المواطنين، الذين لا يستطيعون تحمّل أعباء فاتورتين. وفي الإطار المتقدّم، يبيّن مصدر في لجنة الطاقة في مجلس النواب، في حديث إلى "الأخبار"، أن نسبة الجباية لا تتعدّى 13 في المئة، فيما لا يسدّد 87 في المئة من المواطنين فواتيرهم إلى وزارة الكهرباء، ما يسبّب مشكلة عجز مالي كبيرة في الوزارة.
اقتصرت معالجة الكاظمي للأزمة على إصدار بيان إنشائي يطرح حلولاً نظرية فقط


ملفّ الكهرباء في العراق شائك وعقيم، وقد تكاتف على التسبّب بتعقيده عبر السنوات، الفساد وسوء الإدارة والهدر، مع عدم وجود خطّة حقيقية لدى وزارة النفط لحلّ مشكلة الوقود اللازم لتشغيل المحطّات الكهربائية التي تعمل غالبيتها بالغاز الجاف، خصوصاً أن الوزارة لم تكن جادّة خلال الفترة الماضية في مسألة الاستثمار في الغاز، وفق ما يقول المصدر نفسه، الذي يعرب عن اعتقاده بأن معالجة هذا الملفّ تقتضي تكاتف الوزارات، ذلك أن "وزارة الكهرباء ليست وحدها المعنيّة بالأمر، وإنما تحتاج إلى وزارات النفط والتخطيط والمالية، وإلى جهد أمني لحماية الأبراج والمحطّات، فمنذ شهرين تقريباً تتعرّض يومياً 3 إلى 4 من أبراج الضغط العالي إلى التفجير، ما يسبّب مشكلة في التوزيع". ويُعدّ العراق بلداً نفطياً كبيراً ينتج نحو 4.5 ملايين برميل نفط يومياً، كما تُبيّن إحصاءات عام 2020، لكنّ جزءاً من المشكلة يتمثّل في أنه "لم يأتِ حتى الآن إلى وزارة الكهرباء شخص ذو إرادة وإدارة حقيقيتَين"، بحسب المصدر عينه. وكان وزير الكهرباء الحالي تَقدّم باستقالته إلى الكاظمي قبل ثلاثة أيام، على خلفية الأزمة الأخيرة، لكن رئيس الوزراء لم يردّ بقبولها أو رفضها، إلى أن اندلعت موجة احتجاجات شعبية خلال الساعات الماضية أجبرته على قبول الاستقالة.
أمّا في موضوع الفساد وسوء الإدارة، فقد تشكّلت لجنة نيابية برئاسة النائب الأول لرئيس مجلس النواب، النائب حسن كريم الكعبي، وعضوية رئيسَي لجنتَي النزاهة والكهرباء النيابيتَين، وكذلك رئيس ديوان الرقابة المالية الاتحادي. وبدأت اللجنة تحقيقاً منذ أكثر من ثمانية أشهر، خلصت في نتيجته إلى وجود ملفّات فساد كثيرة وملفّات هدر للمال العام، موصيةً هيئة النزاهة بالبتّ في تلك الملفّات. وفي هذا الإطار، يأمل المصدر في أن يتمّ اتّخاذ إجراءات في الأيام المقبلة للحكم على بعض الفاسدين، سواء كانوا سابقين أو حاليين. لكنّ المشكلة، بحسبه، لا تقتصر على الفساد المالي ومحاباة بعض الفاسدين، وإنما تمتدّ أيضاً إلى وجود فساد إداري في بعض الأحيان وسوء إدارة يؤدّيان إلى هدر كبير للمال العام.