رام الله | ما إنْ دخل وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والعدوّ حيّز التنفيذ، حتّى زحفت حشود غفيرة من الفلسطينيين إلى كلّ شوارع فلسطين، وتجدَّدت المواجهات في المسجد الأقصى لساعات بعد احتفالات عارمة بانتصار المقاومة، انتهت إلى أكثر من 25 إصابة في صفوف الفلسطينيين وانسحاب شرطة العدوّ، فيما استمرّت المواجهات المشتعلة في ميادين الضفة الغربية، حيث يبدو أن الفعل المقاوم سيظلّ حاضراً مستقبلاً بعدما أضحت الضفة أكثر قابلية للانفجار في وجه الانتهاكات الإسرائيلية.وعلى رغم إعلان وقف إطلاق النار، إلّا أن الضفة أصرّت على قول كلمتها في الميدان، ليس فقط على شكل احتفالات ما بين مسيرات راجلة وبالمركبات منذ ما بعد منتصف ليل الخميس وحتّى بعد صلاة الجمعة، بل إن المواجهات تجدّدت مع جيش العدوّ على نقاط التماس وعند الحواجز الإسرائيلية، في مشهد معاكس لِمَا توقّعه بعض المحلّلين من أن هدوء جبهة غزة سيؤدي إلى فتور المواجهات في الضفة والقدس وعلى باقي الجبهات. وتفيد إحصائية صادرة عن الهلال الأحمر بأن المواجهات في الضفة والقدس خلّفت، أمس، 82 إصابة في صفوف الفلسطينيين، فيما قالت وسائل إعلام إسرائيلية إن ثلاثة من جنود الاحتلال أصيبوا خلال مواجهات قرب بلدة بيتا جنوب نابلس.
وفي المسجد الأقصى، كانت الاحتفالات أكثر صخباً وحشداً، إذ بدأت بدخول المصلّين بتكبيرات العيد مع صلاة الفجر، ثم تجدَّدت بمشاركة عشرات آلاف المصلين بعد صلاة الجمعة، الأمر الذي أثار حَنق العدوّ، فدفع بقواته إلى باحات الأقصى، حيث دارت مواجهات عنيفة لساعات قبيل انسحاب شرطة الاحتلال. وتعكس الجموع المحتفلة الحاشدة تعطُّش الفلسطينيين إلى خيار المقاومة كممثّل لهم، وثقتهم به كنهج استراتيجي. وبدا لافتاً هتاف المحتفلين في كلّ مكان لغزة، ولمقاومتها، ولمحمد الضيف باعتباره قائداً بارزاً استجاب لنداء القدس، حتّى إن رايات حركة «الجهاد الإسلامي» و»حماس» و»الجبهة الشعبية»، وباقي فصائل المقاومة، تعانقت في غالبية المسيرات والفعاليات الاحتفالية. وتحوّل عدد من المسيرات الاحتفالية إلى مواجهات عفوية، بعد محاولة العدوّ الاعتداء على المشاركين في عدّة مناطق، كالمسجد الأقصى وبلدة جبل المكبر في القدس، فيما توجّهت كلّ المسيرات، بعد صلاة الجمعة، إلى أقرب نقطة مواجهة مع العدوّ.
شكّلت معركة «سيف القدس» علامة فارقة ومحطّة مهمّة في الضفة الغربية، حيث التحمت الأخيرة باكراً مع غزة، وتنوّعت أشكال مشاركتها في المعركة ما بين مسيرات جماهيرية ومواجهات شعبية وعمليات إطلاق نار. إذ بلغ عدد نقاط المواجهة في هذه الجولة أربعة أضعاف نظيرتها في حرب عام 2014 (بلغ متوسّط عدد نقاط المواجهات اليومية ما بين 80 و100 نقطة، فيما لم يزد عدد نقاط المواجهة عن 27 في الحرب الأخيرة). أمّا شكل المواجهة الأبرز في الضفة، فكان عمليات إطلاق النار في اتّجاه جنود العدوّ وأهدافه، إذ بلغت هذه العمليات نحو 38 في 11 يوماً، بينما وصل عددها إلى47 خلال 51 يوماً من حرب عام 2014. وتشي الإحصائيات المذكورة بتطوّر ملحوظ في معدّل الاشتباك مع العدوّ في الضفة الغربية خلال السنوات السبع الأخيرة، على صعيد زيادة الفلسطينيين المشتبكين وتوسّع نطاق المواجهات، إضافة إلى عودة المقاومة المسلّحة بشكل متدرّج، على رغم عدم وجود أجنحة عسكرية رسمية ومنظَّمة للفصائل الفلسطينية.
لأوّل مرّة تخوض المقاومة حرباً من غزة يكون فتيلها المباشر الاعتداءات الإسرائيلية على القدس


لقد حطّم الفلسطينيون في الضفة الغربية في معركة «سيف القدس» كلّ المعادلات الإسرائيلية، بما فيها مشاريع «التدجين» التي تهدف إلى منع أكبر عدد ممكن من الانخراط في مختلف أشكال الاشتباك مع العدوّ. اشتعال جبهة الداخل المحتلّ عام 48، شكّل، من جهته، ضربة قاسية للمنظومة الإسرائيلية برمّتها، وأربك كلّ تقديرات العدوّ. هكذا، عادت القضية الفلسطينية إلى أصولها الأولى وطبيعتها الحقيقية، حيث تغلّبت الهوية الوطنية الأصلية لفلسطينيي الداخل. وعليه، أدرك العدو، أخيراً، أن كلّ منطقة على امتداد خريطة فلسطين التاريخية تسبح تحت «برميل بارود» قد ينفجر في أيّ لحظة، بفعل استمرار عدوانه في أيّ مكان، وليس في قطاع غزة وحده. وشكّل دخول جبهة لبنان على خطّ المواجهة بإطلاق عدّة صواريخ والتظاهر عند الحدود، هو الآخر، إرباكاً للعدو. فأرغمت كلّ هذه الجبهات المفتوحة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، صاغراً على إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، لأوّل مرّة منذ سنوات طويلة.
ويرى مراقبون أن المعركة الأخيرة فرضت على العدو إعادة حساباته، كونها ستنقل له تداعيات كثيرة، أهمّها ضرورة التفكير جيداً قبل بدء اعتداءاته على الفلسطينيين في أيّ مكان، في ظلّ غياب «خاصرة رخوة أو مكشوفة» يمكن أن يدميها الإسرائيلي وقت ما يشاء. ولأوّل مرّة، تخوض المقاومة الفلسطينية حرباً من قطاع غزة يكون فتيلها المباشر هو الاعتداءات الإسرائيلية على القدس ومحاولة تهجير أهالي حيّ الشيخ جراح هناك، حيث تركّزت الحروب والجولات السابقة في أذهان الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي، وحتى العالمي، على أن المقاومة في غزة تعمل ككيان مستقلّ، ورافقت ذلك دعاية استغلّها خصومها تقوم على أن المقاومة «تسعى إلى إقامة دولة أو إمارة في غزة»، بعيداً عن باقي فلسطين. وجاءت معركة «سيف القدس» لتثبت أن المقاومة ذخر لكلّ فلسطين، بل امتدَّ بُعدها إلى العالمَين العربي والإسلامي بخوضها المعركة من أجل انتهاكات العدوّ في القدس والمسجد الأقصى.
البعد الأخير حول أسباب المعركة، رفَع رصيد المقاومة من الحاضنة الشعبية، وأهّلها لتكون أكثر تمثيلاً للفلسطينيين في كلّ مكان. فالتظاهرات اجتاحت عشرات الدول العالمية، وليس فقط العربية أو الإسلامية خلال المعركة الأخيرة، الأمر الذي أعاد مركزية القضيّة الفلسطينية إلى أجندات العالم، وما يسمّى «المجتمع الدولي» وهيئاته المتشعّبة. ومن المهمّ القول هنا، إن المقاومة والتفاعل الكبير معها على مختلف الجبهات أجبر الإدارة الأميركية على مهاتفة نتنياهو، أكثر من مرّة، لطلب وقف إطلاق النار، بينما لم يكترث العدوّ في الحروب السابقة للرأي العام العالمي، وواصل هجومه الوحشي غير آبه بكّل الوساطات.
الأكيد أن المدّ الجماهيري المنطلق في الضفة الغربية أعاد ثقة الشباب الثائر بنفسه. فَمِن الآن، أضحى لأيّ اعتداء إسرائيلي ثمن. وفي حالة التمادي، يُحتمل أن يثور بركان في الضفة، وتتجدّد المسيرات عند معظم نقاط التماس من دون الحاجة إلى وجود فصائل. والأخطر في شكل مشاركة الضفة الغربية بالنسبة إلى العدو، سيكون ظهور قيادات ميدانية محلية للعمل الجماهيري. وعلى رغم أن الأسابيع المقبلة يُحتمل أن تشهد أوسع حملات اعتقال إسرائيلية في الضفة للمشاركين الفاعلين في الهبّة الأخيرة، إلّا أن الهبّة ذاتها أثبتت قدرة الشباب على خوض المواجهة وإشعالها في أيّ وقت، على رغم كلّ التحديات والظروف، وعدم الحاجة إلى قيادات ميدانية قد يتعمّد العدوّ تغييبها في سجونه.