القاهرة | بعد فترة من الاستقلالية الظاهرية التي تَمتّع بها النظام القضائي المصري في العقدين الأخيرين، إلى حدّ إصدار أحكام ضدّ قرارات رئاسية وتنفيذها (على رغم معارضة الحكومة والنظام) منذ عام 2005 حتى السنوات الأولى لرئاسة عبد الفتاح السيسي، فإن الأخير ونظامه لم يعد لديهما اهتمام بالحفاظ على هذه الاستقلالية، التي، وإن كانت شكلية، إلا أنها أبقت أملاً لدى الناس في الحصول على حقوقهم المنهوبة. لكن قصة السيسي مع القضاء والقضاة كانت مختلفة، فهو استغلّهم من البداية وبوضوح في تهيئة وصوله إلى الرئاسة، وذلك باختيار رئيس «المحكمة الدستورية» الأسبق المستشار عدلي منصور ليكون رئيساً للبلاد في المرحلة الانتقالية، بعد عزل الرئيس الراحل محمد مرسي وقبيل الانتخابات التي نَصّبت «الجنرال» رئيساً. مذّاك، وهو يواصل الترهيب والترغيب مع شيوخ القضاة، ليُقرّ قوانين جعلته متحكّماً فعلياً في السلطة القضائية من ألفها إلى يائها، بل إنه أضفى الإطار الدستوري على تلك القوانين في التعديلات الدستورية الأخيرة.وعلى رغم أن هناك نصّاً دستورياً على استقلالية القضاء، إلا أن صلاحيات الرئيس، التي تستغلّها أذرعه في تهديد القضاة، باتت سبباً للسيطرة على شؤون الدولة كافّة، ومنها القضاء. خلال الأسابيع الماضية اعتمد السيسي قرارات عزل بحق عدد من القضاة (راجع: «مذبحة» في القضاء تُرافِق غليان الشارع، 3 تشرين الأول)، لكنّ الجديد هو التعليمات المباشرة للنيابة العامة بأن تنتظر القرارات في شأن حالات كثيرة في جهات محدّدة، ولا سيما رئاسة الجمهورية والمخابرات والمتحكّمين بالمشهد في الدولة، وهو ما جرى ليس فقط بحق المؤيدين والمعارضين الذين تمّ إدخالهم أو إخراجهم من قضايا، بل امتد للتأثير في قضايا منظورة أمام المحاكم. أيضاً، خلال السنوات الماضية تراجعت حدّة التزوير والتلاعب في الأحكام والقضايا التي يتمّ تسجيلها، لكن الوضع صار مختلفاً، فالسلطة لديها قضايا مفتوحة من دون تحديد مدى زمني، وهناك اتهامات جاهزة في قضايا مفتوحة للحبس بينها إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وهي التهمة الفضفاضة التي استُخدمت ضدّ العشرات.
بات النائب العام ينتظر قرارات عليا ليبني عليها أوامره


التعليمات الجديدة لرجال النيابة مرتبطة بضرورة انتظار قرار النائب العام الذي يصله من أعلى، بحق أشخاص محدّدين في قضايا عدّة، كانت بينها قضية الصحافي محمد منير الذي أُفرج عنه بعد إصابته بفيروس «كورونا» في السجن، إضافة إلى المحامي طارق جميل سعيد الذي أساء في فيديو إلى النظام قبل أن يخرج والده ويقدّم الاعتذار في الفضائيات ليفرَج عن ابنه بكفالة مالية قدرها ثلاثمئة ألف جنيه، فضلاً عن قضية رجل الأعمال صلاح دياب الذي أُطلق بقرار من مدير «المخابرات العامة»، اللواء عباس كامل، وليس بقرار النائب العام حمادة الصاوي. والأخير يمارس بدوره سياسة مختلفة عمادها الترويج والاستجابة للقضايا التي تشغل الرأي العام، من دون أخذ الحق للمظلومين أو حتى الحرص على منع الأجهزة الأمنية من إلصاق التهم بكثيرين. هكذا، تتجاهل النيابة العامة عشرات القضايا الملفّقة التي يرفعها الضباط من أجل «تقنين» حبس المتهمين، وسط أكوام من القضايا السياسية التي تنظر فيها النيابة أو تحال عليها، وهي مرتبطة بالأزمات التي تواجه النظام وآخرها الاحتجاجات على القرارات الأخيرة بشأن مخالفات البناء، فضلاً عن التظاهر المحدود للاعتراض على الأوضاع الاقتصادية. في النتيجة، تحولت النيابة إلى دور الرقابة الأبوية مباشرة على المواطنين، ولا سيما من ناحية «إعلاء قيم الأخلاق» ومحاسبة ما ترى فيه خروجاً عن الآداب العامة، مقابل تجاهلها الأوضاع الإنسانية السيئة داخل السجون، التي بلغت ذروتها مع تفشّي «كورونا» ليُعزَل المساجين ويُمنع ذووهم من زيارتهم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا