القاهرة | يمكن أن يكشف الاستقراء التاريخي للدور المصري في المسألة الليبية عن هوية هذا الدور، ومحدداته، وربما قراءة مستقبلية لحدوده، ويعيد الاعتبار لضرورة الاعتداد بالرؤية الشعبية الليبية لمستقبل البلاد ككل، كما قد تكشف هذه القراءة الموجزة.
مرحلة مواجهة الاستعمار
شغلت ليبيا حيّزاً معتبراً من اهتمام مصر، ولا سيما بعد الاحتلال الإيطالي لليبيا (1911) والتعاطف الكبير الذي حظيت به القضية الليبية على خلفية فظائع الاحتلال الإيطالي منذ بدئه وتفاقمها مع صعود الحكم الفاشي (1922). وأرفدت القاهرة الحركة الوطنية الليبية الملتفّة حول محمد إدريس السنوسي وأحمد السويحلي (وزميلهما بشير السعداوي في سوريا) بدعم كبير وتيسير التواصل مع القوى المعنية بالقضية الليبية منذ يناير 1923. ويبرز مثالاً على ذلك تزعّم الأمير عمر طوسون حركة اكتتاب شعبية لمعاونة ليبيا، ووساطة السياسي المصري عبد الرحمن عزام بين السنوسي والإنكليز، وإن لم تفض الوساطة إلى شيء ملموس في ذلك الوقت.
وانطلاقاً من القاهرة، دخل السيد إدريس منذ أغسطس 1940 في شراكة مع الإنكليز، قام بمقتضاها بتكوين فصائل قبلية بلغ قوامها نحو 14 ألف جندي وضابط ليبي ساعدت الإنكليز في دخول بنغازي في فبراير 1941، والفرنسيين في دخول الكفرة وجغبوب في فبراير ومارس 1941. وفي تطور لافت مثّل «نادي طرابلس الغرب الثقافي»، الذي تأسس في القاهرة في أواخر عام 1943 برئاسة عمر الغويلي وضم مجموعة من الشباب الطرابلسي من خريجي الأزهر الشريف، تحدّياً للأسس الأيديولوجية للسنوسية وأبرزها موالاة القوى الغربية، ولا سيما بعد احتلال بريطانيا وفرنسا للبلاد في عام 1942، وما اعتبره النادي نظرة جزئية للسنوسي بالمبايعة على إمارة برقة واستقلالها وحدها.
وانحازت مصر تاريخياً لوحدة ليبيا، الأمر الذي يمكن تلمّسه في تحوّلات علاقتها بالسنوسي نهاية الأربعينيات، وقادت إلى رفض إدريس وساطة مصر. كما نشطت مصر في دعم استقلال ليبيا عبر الأمم المتحدة حيث كانت عضواً في «مجلس ليبيا الدولي». وسهّل عمل المؤرّخ المصري محمد فؤاد شكري مستشاراً لبشير السعداوي الدعاية لاتجاه الوحدة السياسية.
وعندما حصلت ليبيا على استقلالها في 24 ديسمبر 1951 بلغت نسبة الأمية فيها أكثر من 90%، ولم تكن ثمة جامعات في ليبيا، وكان لمصر دور كبير في هذا المجال بعد قيام ثورة يوليو 1952، وبناء على جهود سابقة بإرسال بعثات معلمين ليبيين لمصر بشكل منتظم منذ عام 1945، الأمر الذي تجسّد مبكراً في دعم مصر لـ«الجامعة الليبية» في بنغازي التي تأسست في عام 1955.

عبد الناصر والثورة الليبية
حدث التحوّل الكبير في مسار ليبيا بتفجر «ثورة الفاتح». وحسب الرواية المصرية ــــ التي سرد جزءاً مهماً منها فتحي الديب رئيس إدارة الشؤون العربية برئاسة الجمهورية آنذاك في كتاب عبد الناصر وثورة ليبيا ــــ فإن القادة الليبيين تطلّعوا إلى دعم ناصر، وتوجيهاته. وتمثّل الرد المصري في اقتراح الاتصال بممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وإقناعهم ــــ على خلفية افتراض هو محل شك كبير بأنها لم تكن مطّلعة بما يكفي على مجريات الأمور، وهي صيغة تكررت كثيراً في مؤلفات شهود عصر هذه الفترة في القاهرة ــــ أن الثورة قامت لمواجهة الفساد والتخلف الاجتماعي، مع مطالبتهم بسرعة اعتراف حكوماتهم بالوضع الجديد.
ويمكن القول إن القذافي كان مولعاً بصدق بعبد الناصر، كإنسان، وفكره العروبي، وأيديولوجيته، ووصف جون ب. إنتيليس J. P. Entelis (في بحثه عن ليبيا وسياستها في شمال أفريقيا) هذه العلاقة بجملة قصيرة مدهشة نصها أن القائد الليبي الشاب كان ليسلّم بلاده لعبد الناصر بالمعنى الحرفي حال قبول الأخير لذلك! ورصد ساسكيا فان جينوجتن Saskia v. Genugten هذا الوضع ــــ الذي قد يبدو تدخلاً مصرياً في توجيه الثورة الليبية ــــ بشكل دقيق ومغاير في مؤلفه Libya in Western Foreign Policies, 1911 - 2011 بملاحظة أن كبار الضباط الليبيين قد حرّكهم جزئياً الإعجاب بتجربة الثورة المصرية.
يمكن القول إن القذافي كان مولعاً بصدق بعبد الناصر


وبينما وضع عبد الناصر في كتيّبه الشهير «فلسفة الثورة» تصوراته عن دوائر تحرّك مصر على خلفية أفكار «رومانسية» اصطدمت لاحقاً بحدود القدرة، فإن القذافي عمد طوال عهده إلى القيام بدور المنظّر الفذّ الذي قام بثورة توحّد «بين التراثين الإسلامي والعربي» (على حد وصف هنري حبيب في مؤلفه الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان «ليبيا بين الماضي والحاضر»، 1981)، أو «النظرية العالمية الثالثة»، التي تقوم على فكرة أن مبادئ ثورة الفاتح تشكّل نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً متكاملاً يقوم على «التراث الليبي الإسلامي»، واعتبر بديلاً من «النظامين الرأسمالي والشيوعي»، مع اقتناع بأن «النظرية الثالثة» تسبق النظامين تاريخياً من جهة استنادها إلى مبادئ الإسلام.
وبعد وفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970، بدأ القذافي بالتوجه فوراً نحو تعزيز الوحدة مع الدول العربية، الأمر الذي كانت له نتائج مخيبة للغاية في جميع التجارب.

السادات: مرحلة مضطربة
ثمة ملاحظة مهمة، أوردتها الألمانية نادين شنيلزر N. Schnelzer في مؤلفها عن الخطاب الدستوري منذ سقوط القذافي: Libya in the Arab Spring (2016)، وهي نقل الدستور المصري كنموذج لليبيا الثورة في الإعلان الدستوري الصادر في عام 1969، تلاه استلهام تجربة الاتحاد الاشتراكي المصرية في عام 1971 بقيام حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي» (الذي سرعان ما ألغي تماماً في عام 1972 مع حظر جميع الأحزاب السياسية في البلاد). وبلغ التعاون بين البلدين مستوى جيّداً قبل حرب أكتوبر، ففي الوقت الذي قدّمت فيه العسكرية المصرية عدداً كبيراً من المستشارين العسكريين لتدريب القوات الليبية، قادت ليبيا جهوداً ملموسة لحث الدول الأفريقية على قطع علاقاتها مع إسرائيل، وقدّمت دعماً عسكرياً لمصر.
لكن بعد حرب أكتوبر، ساد الفتور العلاقات المصرية الليبية، وقاطع القذافي جلسات جامعة الدول العربية وسحب السفير الليبي من القاهرة. فيما واصل تبني «الخطاب الناصري» منذ دعوته إلى الوحدة مع الجزائر في عام 1973، ومع تونس في يناير 1974 (اتفاق جربة لتكوين جمهورية إسلامية عربية). واعتبر القذافي أن نظام السادات يجسد نكوصاً عن فكرة العروبة لدى عبد الناصر، أو على حد وصف المعلّق الليبي البارز منصور الكيخيا: «أعطى القذافي ليبيا لعبد الناصر، ثم حاول سرقة مصر من السادات».

مبارك و«الربيع العربي»
واجهت ليبيا اتهامات غربية بالضلوع في دعم الأنشطة الإرهابية والتخريبية في نقاط مختلفة من العالم، منها حادث تفجير طائرة رحلة البان أميركان 103 في نهاية عام 1988 فوق قرية لوكيربي، وحسب رؤى شعبية ليبية فإن دول جوار ليبيا كافة استفادت من الحصار الاقتصادي الذي ضرب عليها، ووصل الأمر أحياناً إلى ابتزاز سياسي صريح للقذافي.
وجاءت أزمة الخليج الأولى (1990) لتجسد تبايناً في مواقف القاهرة وطرابلس، حيث رفض القذافي الانضمام إلى التحالف العربي لمواجهة الغزو العراقي للكويت. لكن عندما أشار القذافي، في رواية يوردها بإيجاز جيوف سيمونز Geoff Simons في مؤلفه الشهير «Libya: The Struggle for Survival»، لقمّة القاهرة (أغسطس 1990) بأنها جزء من «مؤامرة إمبريالية ضد الأمة العربية» رد عليه الرئيس مبارك بعبارة أنه كان من اليسير إرساله فرقتين مسلحتين لاحتلال ليبيا، إن كانت مصر جزءاً من المؤامرة كما زعم القذافي.
وفي خضم تداعيات «الربيع العربي»، سرّبت تقارير فشل القذافي فتح «جبهة ثالثة» على امتداد الحدود الشمالية الشرقية مع مصر لمواجهة المعارضة هناك، أورد تفاصيلها وليام س. تايلور W.S. Taylor في كتابه Military Responses to The Arab Uprisings (2014)، حيث أمل القذافي حصول قذاف الدم على دعم القبائل الليبية في مصر، ونقل مقاتليهم إلى مدينة واحة الكفرة الصغيرة قرب الحدود. ولربما كانت هذه الاستراتيجية، حال قبول مصر دعمها، ذات أثر كبير، ورأى البعض أن قذاف الدم استغل استراتيجية الجبهة الثالثة لطلب اللجوء، ورأى آخرون أنه تراجع عن مساعيه بعد رفض المجلس العسكري في مصر الاقتراح.
إجمالًا، مع ملاحظة إدراك القاهرة دائماً الصلة الخاصة مع ليبيا، وضرورة وحدتها، لا يفوتنا التأكيد أن الرواية من الجهة المقابلة (داخل ليبيا) قد تبدو مدهشة ومغايرة في تقاطعات كثيرة مع الرؤية المصرية، وهي محصلة دالة وكاشفة لجدليات العلاقات العربية وهويات المقاربات التاريخية وسبل استقراء الوقائع التاريخية.