شكّلت عملية «نبع السلام» التركية في شرقي الفرات، وما أحاط بها من أجواء أظهرت واشنطن متخلّية عن حلفائها الأكراد لصالح التوافق مع أنقرة، تحوّلاً اهتزّت بفعله العلاقات الكردية - الأميركية، وكادت تصل إلى مرحلة القطيعة، لولا القرار الأخير للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، البقاء في محيط حقول النفط في الشرق السوري، والذي دفع القوى الكردية إلى التعويل مجدداً على المظلّة الأميركية. وفي مقابل اعتقاد تلك القوى بأهمية الوجود الأميركي كـ«عامل توازن» و«ضابط إيقاع» في المنطقة، فهي تدرك أهمية الدور الروسي في موازنة الدور التركي، وفي تقريب وجهات النظر مع الحكومة السورية، التي يعتقد الكثير من الأكراد أن لا حياة لأيّ مشروع في الشمال والشرق من دون موافقتها وانخراطها فيه.بالعودة إلى بداية عملية «نبع السلام» التركية، وتحديداً إلى ما بعد ستة أيام من إطلاقها وخسارة «قسد» مساحات واسعة من كانتونات «الإدارة الذاتية»، يظهر كيف نجحت الجهود الروسية في رعاية اتفاق مشترك بين «قسد» والجيش السوري، يسمح بانتشار الأخير في مناطق على الشريط الحدودي مع تركيا في محافظات الحسكة والرقة وحلب. حينها، حاول الروس استثمار ذلك الاتفاق العسكري لإنجاز اتفاق سياسي يمهّد لتسوية نهائية للمناطق الخاضعة لسيطرة «الإدارة الذاتية» الكردية. إلا أن كلّ تلك المحاولات لم يُكتب لها النجاح، بسبب تعنّت الأكراد، وتمسّكهم بضرورة اعتراف دمشق، دستورياً، بـ«الإدارة الذاتية». وبعد قرار ترامب القاضي ببقاء القوات الأميركية في الشرق السوري، أظهرت «قسد» تعنتاً أكبر في التفاوض مع دمشق. ولذا، سعت الحكومة السورية إلى الالتفاف على «قسد»، عبر استخدام نفوذ العشائر في شرقي الفرات، لتحويل وجودها في الشريط الحدودي مع تركيا إلى أمر واقع. وفي هذا السياق، عُقد، في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، لقاء جمع رئيس مكتب الأمن الوطني، اللواء علي مملوك، مع شيوخ ووجهاء العشائر في الحسكة، في مطار القامشلي الدولي. ونُقل آنذاك عن اللقاء أنه «لم يكن بالمستوى المطلوب لناحية حضور وجهاء العشائر»، كما أن «طلبات الوجهاء اقتصرت على أمور خدمية، ولم يُبدوا تجاوباً مع مطالب دمشق بخصوص العلاقة مع قسد، وضرورة سحب أبناء العشائر من صفوفها» (راجع الأخبار عدد 7 كانون الأول 2019. بالتوازي مع ذلك، لم تتوقّف الجهود الروسية في إيجاد صيغة مناسبة لملف الشمال، تُوافق عليها كلّ من القوى الكردية ودمشق، حتى إن «مركز المصالحة الروسي» في حميميم تحوّل أخيراً إلى مكان لاجتماع الروس مع قيادات كردية من «الإدارة الذاتية»، وأحزاب سياسية ومستقلين أكراد، لردم الهوّة مع الحكومة السورية، والتمهيد لإطلاق حوار فاعل بين الطرفين. وفي هذا السياق، جاء الإعلان الكردي، قبل أيام، عن موافقة دمشق على إطلاق حوار مباشر مع «الإدارة الذاتية»، بعد لقاء في حميميم، «لم تصدر عنه نتائج جدّية»، بحسب مصادر دبلوماسية، وآخر في دمشق حضره مملوك بنفسه. ويرى مصدر دولي مطّلع أن «موسكو لن تكسر الجرّة مع أنقرة عبر رعاية اتفاق جدّي بين الأكراد ودمشق، لأنه سيكون على حساب المصالح التركية بالضرورة»، لكن يمكن أن تستغلّ موسكو هذه الورقة لابتزاز أنقرة، وتهديدها برعاية اتفاق سوري - كردي يضرّ بمصالحها إذا تابعت الأخيرة تصعيدها في إدلب. ويوافق على ذلك مصدر دبلوماسي سوري مطّلع، يرى أن إعلان موافقة دمشق على إطلاق حوار مباشر مع القوى الكردية «استعجله الروس، ليكون رسالة لأنقرة في ظلّ تصاعد التوتر الروسي - التركي على خلفية عمليات إدلب».
لم تتوقّف الجهود الروسية في إيجاد صيغة مناسبة لملف الشمال


ولا يقتصر التوتر الروسي - التركي على إدلب ومحيطها فقط، بل يظهر أيضاً بشكل واضح في شرقي الفرات، من خلال رفض أنقرة المتكرّر تسيير دوريات مشتركة مع الروس في ريف الحسكة، وفق ما ينصّ عليه «تفاهم سوتشي» بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان. كذلك، تشهد المنطقة ازدياداً في عمليات القصف التركي على مواقع «قسد» والجيش السوري هناك، في وقت تتابع فيه القوات التركية تحشيدها، وسط أنباء عن استئناف متوقّع لـ«نبع السلام»، في إطار الردّ التركي على تحرّكات الجيش السوري الأخيرة في إدلب وحلب. لكن المصدر الدولي المتحدّث إلى «الأخبار» يعتبر أن «رؤية الأكراد والأميركيين للموقف التركي اليوم، هي أن التركي يخوض معركة دفاعية في إدلب، وليست هجومية»، وهو بالتالي «لن يفتح معركة معهم في شرقي الفرات، ولن يخوض معركتين متزامنتين على جبهتين، ولن يوتّر الموقف مع واشنطن التي تدعمه في مقابل موسكو».
وسط ذلك، تحاول واشنطن الاستفادة من الموقف في استعادة ثقة القوى الكردية وولائها المطلق والكامل لها، وإضعاف ثقتها بالروس وقدرتهم على حمايتها. ولذا، فهي تعمل على طمأنة حلفائها في «قسد» إلى أن التصعيد التركي مقابل الروس في شرقي الفرات، إن وقع، «لن يطال مناطق سيطرة القوات الأميركية»، على عكس مناطق سيطرة القوات الروسية. مع هذا، لم يعد الأكراد يبدون ثقة مطلقة بواشنطن، وهو ما تُرجم ميدانياً بإخلاء «قسد» مقرّات ومستودعات لها في بلدة أبو رأسين في ريف الحسكة، في ظلّ معلومات عن تحرّكات إضافية في الدرباسية وعامودا، في محاولة لاتخاذ إجراءات احترازية في حال شمل التصعيد التركي الشمال والشرق السوريَّين، حيث السيطرة الأميركية. وفي سياق المساعي الأميركية نفسها، تقوم القوات الأميركية بـ«استعراض إعلامي» متكرّر، عبر التضييق على تحرّكات موسكو، واعتراض الدوريات الروسية في منطقة الجزيرة السورية. وتفسّر المصادر العسكرية السورية التصرفات الأميركية بأنها «محاولات لإثبات أن اليد الأميركية هي العليا في المنطقة، وهذا استعراض أمام الأكراد بشكل خاص»، بينما يرى فيها المصدر الدولي المطّلع ردّاً أميركياً على «التنمّر الذي تمارسه الشرطة العسكرية الروسية في منطقة تل تمر، حيث تجري دوريات منفردة من دون التنسيق مع قسد، التي من المفترض أن تنسق مع الأميركيين بدورها، كما جرت العادة». ويؤكد المصدر أن «الأكراد والأميركيين مستاؤون جداً من الروس على خلفية دوريات تل تمر».