بالخفَّة إيّاها، تلقّفت الإدارة الأميركية الأحكام السعودية في قضية اغتيال جمال خاشقجي. مرّة أخرى أكّدت أنها لا تزال راضية عن المسار الذي خطته حليفتها. راضية إلى درجة أنها رأت في الأحكام بإعدام خمسة مجهولين «خطوة مهمة» يمكن البناء عليها في مسار متشابك، يعيد الجدل في حادثة القنصلية إلى النقطة الصفر. استدعت الأحكام الهزلية التي برّأت رجالات محمد بن سلمان لتزجّ بآخرين لم تُذكر أسماؤهم، اقترفوا ما اقترفوه في لحظةِ تخلٍّ ومن دون نيّة مسبقة، بياناً سريعاً من مسؤول أميركي «كبير» رحّب باسم الإدارة بخطوة المملكة، ودعاها إلى «المزيد من الشفافية».من الأصل، دأبت إدارة دونالد ترامب طوال العام الماضي على انتهاج سياسة قائمة على تقديم المصالح الاستراتيجية بين البلدين على أيّ اعتبار آخر، وإن كان ذلك على حساب انقسام داخلي برز بوضوح بين الأولى والكونغرس، وبينها وبين وكالة الاستخبارات المركزية، إذ خلصت الأخيرة إلى تحميل ابن سلمان مسؤولية الجريمة. هذا التجاذب، على أهميّته في سياق قضية غاية في التعقيد كهذه، لم يمنع من رجحان كفّة سياسة ترامب في إدارة العلاقة مع الرياض على نحو لا يفسد الودّ القائم، إذ يعكس موقف الإدارة المرحّب بأحكام «مثيرة للسخرية»، وفق وصف المقرِّرة الأمميّة الخاصة أغنيس كالامار، ما دأب ترامب على ترسيخه منذ زياته الأولى إلى المملكة ربيع 2017، حين توصّل باكراً إلى مقايضة بدا أنها ترضي الطرفين: ادفعوا المزيد لنحميكم. ذلك لم يتغيّر بعد جريمة القنصلية التي شكّلت اختباراً صعباً للإدارة، وسط حملة دولية مناوئة للمملكة، مضافاً إليها الضغوط التي مارستها المؤسسات الأميركية ممثّلةً في الكونغرس و«سي آي إيه»، بعدما نحَت إلى مواقف مناقضة لتلك التي عبّر عنها الرئيس، ما أنتج ردود فعل أميركية متباينة إزاء القضية، ألقت بثقلها على العلاقات بين الحليفتين.
وعلى رغم تبنّي الكونغرس مشاريع قوانين تحظر تصدير أسلحة إلى الرياض ووقف الدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى «التحالف» السعودي ــــ الإماراتي في حربه ضد اليمن للضغط على المملكة، وخلاصة وكالة الاستخبارات إلى تحميل ابن سلمان مسؤولية الاغتيال، اكتفت واشنطن، عبر وزارتها للخزانة، بفرض عقوبات مالية وحظر سفر في حقّ 17 من الواردة أسماؤهم في التحقيقات، بينما بنى ترامب سرديّته على قاعدة: «ربما كان يعلم، وربما لم يكن يعلم». التبرير الذي يسوقه الرئيس الأميركي ينبع من إيمانه بأنه إذا اتخذ أي موقف مغاير، سيتجه السعوديون بأموالهم إلى روسيا والصين، ما يعني خسارة أهمّ مشترٍ للسلاح الأميركي.
دأبت إدارة ترامب على تقديم «المصالح الاستراتيجية» على أي اعتبار


في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، في جلسة استماع للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، إن هناك تقصيراً في العملية القضائية في السعودية لمحاسبة المسؤولين عن مقتل خاشقجي، مشيراً إلى إبلاغ السعوديين بذلك. دلّل ذلك على استعجال إدارة ترامب للإسراع في المحاكمات التي تجريها الرياض وإيجاد كبش فداء لتقديمه إلى الرأي العام العالمي، كي تُعتَق المملكة من المأزق الذي دفعتها إليه حادثة القنصلية. لكن المحاكمات الهزلية التي قدّمت الرياض بموجبها خمسة «متورطين»، لم تسمِّهم، للإعدام، قد لا تساعدها في إغلاق الملف، بل على العكس، خطوة كهذه ستعيد القضية مجدداً إلى الواجهة. تثير هذه القضية قلق الكونغرس، إذ أشار السناتور الديمقراطي، كريس ميرفي، أخيراً، إلى أن المعلومات التي في حوزة مجلس الشيوخ تشير إلى تورط ولي العهد السعودي مباشرة، محذراً من تحوّل الرياض إلى طرف مهيمن في العلاقة مع واشنطن، إذا سمحت إدارة ترامب للنظام السعودي بالإفلات من العقاب. أما رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، فرأت أن مقتل خاشقجي يُعدُّ أحد الأسباب لرفضها تقديم أي دعم إلى السعودية للرد على هجمات منشأتي «أرامكو».
ويرى بروس ريدل، المسؤول السابق في «سي آي إيه» والباحث في معهد «بروكينغز» أن «شبح خاشقجي سيظلّ جاثماً على صدر السعودية»، وأن ابن سلمان «دمّر العلاقات الأمنية التي جمعت السعودية بالولايات المتحدة على مدار الأعوام الـ75 الماضية بقراره قتل خاشقجي». ومستشرفاً طبيعة العلاقات، يقول ريدل: «الحاضر والمستقبل ليسا في اتجاه الماضي في ما يتعلق بعلاقة واشنطن بالرياض». لكن وزير الدولة للشؤون الخارجية، عادل الجبير، توصّل خلال ندوة في «مجلس العلاقات الخارجية» في نيويورك، إلى ما يفيد بأن «طبيعة تحالفنا مع الولايات المتحدة لن تتغيّر بسبب قتل خاشقجي».