لعلّ أسوأ ما في ميتة البغدادي، أن العالم وقع رهينة انبهار أميركي جديد سيكون مضطرّاً إلى «معانقته» لفترة طويلة. ماذا حدث؟ «شيءٌ ما كبير حدث للتوّ». استبق دونالد ترامب إعلانه «الكبير» بتلك العبارة. خرج بعده ليزفّ النبأ: «أبو بكر البغدادي قُتِل» أخيراً. «أنجزنا» نهاية الخلافة والخليفة معاً، في العام ذاته (2019). كانت تلك المهمّة في صلب وعوده الانتخابية، و«الأولوية المطلقة» لإدارته، وربّما تمثّل عاملاً حاسماً لإعادة انتخابه في 2020.لا يمكن فصل عملية قتل البغدادي عن التوقيت الذي حدثت فيه، إذ تجيء وسط معارك طاحنة ترخي بثقلها على إدارة رئيس يسعى خصومه إلى لَيّ ذراعه داخلياً، فيما يتقدّم التحقيق تمهيداً لمساءلته، مضافاً إليه تشكيك هؤلاء بوجود سياسة خارجية ترتكز عليها الإدارة الحالية. بيدَ أن مقتل البغدادي يمثّل مكسباً مهماً لترامب بعد قراره سحب القوات الأميركية من سوريا، والانتقادات الحادّة التي طاولته، والقلق من عودة «داعش» لتنظيم صفوفه. من هنا، جاء إعلان الرئيس ليبدّد «مخاوف القلقين»، وليؤكد لهؤلاء، مجدداً، أنه «باقٍ لتأمين النفط».
واقعاً، استثمرت واشنطن، وعلى مدى سنوات أربع، في الحرب على «داعش». تموضعت الوعود منذ عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي أطلق يدَ «التحالف الدولي» في سوريا والعراق، بـ«القضاء» على التنظيم، في دائرة النفاق الذي طبع السلوك الأميركي. بيد أن الإدارة السابقة، وفي العامين الأولين، لم تفعل الكثير، سوى غارات موضعية محدّدة في مناسبات متفرّقة، لم تغيّر في الواقع الميداني ما يُذكر. بحلول 2017، باتت الصورة أوضح مع تسلّم ترامب مهامه الرئاسية. نرلت القوات الأميركية إلى الأرض، وتعزّز التحالف مع الأكراد، إلى أن أُعلن «القضاء على الخلافة» في الثالث والعشرين من آذار/ مارس الماضي. لكن قبل ذلك وبعده، أعلن ترامب، مراراً، عزمه على الانسحاب من سوريا، إلى أن بدأ التنفيذ عملياً خلال الأسابيع القليلة الماضية.

رواية ترامب لـ«كايلا مولر»
وَصَف ترامب بالتفصيل الدقيق العملية العسكرية (سُمِّيت «كايلا مولر» تيمّناً برهينة قُتلت مطلع شباط/ فبراير 2015، أثناء احتجازها لدى التنظيم) التي أدّت إلى مقتل البغدادي. روى خلال 48 دقيقة تفاصيل لا تُروَى عادةً في إعلانات كهذه. تحدّث عن توقيت معرفته بالعملية، وحضوره قاعة الإعلان، وكيف جرت العملية، ثمّ كيف مات الجميع، بمَن فيهم زوجتا البغدادي وأطفاله، ولم يبخل في تقديم بعض السرد للحظة المقتلة. عند الساعة التاسعة صباحاً، بتوقيت واشنطن، أخطر ترامب العالم، من البيت الأبيض أن «أبا بكر البغدادي قُتِل»، بينما تسنّى له مشاهدة العملية بشكل مباشر عبر الكاميرات التي جُهّز بها عناصر من القوات الخاصة: «كان الأمر أشبه بمشاهدة فيلم سينمائي».
ترامب: بن لادن كان إنجازاً كبيراً بحجم برجَي التجارة العالميَّين، لكن البغدادي بنى دولة


في جلسة أسئلة وأجوبة طويلة، لفت الرئيس إلى أن زعيم التنظيم كان «تحت المراقبة منذ أسبوعين»، وفور تأكيد موقعه، بدأت «مجموعة كبيرة» من القوات الأميركية الخاصة و«ثماني مروحيات» «الغارة». كان على تلك القوة عبور منطقة خطرة إلى شمال غرب سوريا، والتحليق لمدة تصل إلى ساعة و10 دقائق. «لقد حلّقنا على ارتفاع منخفض جداً جداً وبسرعة كبيرة. ولكن ذلك كان جزءاً كبيراً وخطيراً جداً من العملية. الدخول والخروج... كان هناك احتمال أن نواجه قوة نيران هائلة». وعندما هبطت المروحيات على المجمّع المُستهدَف «فُتح باب الجحيم». حينها، خرج «طاقم كبير من المقاتلين الرائعين ركضاً من مروحياتهم، وقاموا بتفجيرات لفتح ثُغر في جانب المبنى» لتجنّب الفخاخ المزروعة على الأبواب. قادة القوات أبلغوا عن تقدّمهم خطوة بخطوة، وقالوا إنه تم إخراج 11 طفلاً أحياء، كما تم أسر آخرين. وقُتلت زوجتا البغدادي. وبعد ذلك، جاءت المكالمة التي كان ينتظرها الجميع: «سيّدي، لا يوجد سوى شخص واحد في المبنى. نحن متأكدون أنه في النفق يحاول الهروب، لكنه نفق مسدود». بحسب الرواية التي سردها ترامب، أخذ ثلاثة من أولاده معه في النفق، لكن وجودهم لم يكن ليمنع المحتوم. أرسلت القوات الأميركية الكلاب إلى النفق، وقام البغدادي بـ«تفجير نفسه». «لم يمت بطلاً، بل جباناً، فقد كان يبكي وينتحب ويصرخ، وجلب أولاده الثلاثة معه ليموتوا. لقد كان موتاً محتّماً. وكان يعلم أن النفق مسدود». وقال إن القوات الخاصة بقيت في المجمّع نحو ساعتين، ومع ذلك «لم نخسر أحداً، ما رأيكم بذلك؟»، ولكن في الحقيقة، كانت هناك إصابة في الجانب الأميركي: «لقد أصيب كلبنا»!
ساعات قبل إعلان ترامب، سارعت «قوات سوريا الديموقراطية» إلى الإعلان عن عملية «مشتركة» مع الأميركيين انتهت بمقتل البغدادي، بينما أكد جهاز المخابرات الوطني العراقي أنه قدّم معلومات إلى القوات الأميركية حدّدت مكان اختباء زعيم التنظيم، لكن ترامب سعى في خلال كلمته إلى التقليل، وخصوصاً، من دور الأكراد. وحين وجّه شكره، ذكر، مِن ضمن مَن ذكر، روسيا وسوريا وتركيا والعراق على التوالي، والأكراد الذين «استطاعوا أن يقدّموا لنا دعماً محدوداً». لاحقاً، سيعود ترامب ليشكر موسكو لدى إجابته عن أسئلة الصحافيين، وهو قال إنها أدّت دوراً «عظيماً»، بينما كان لبغداد دور «ممتاز» في العملية. قال أيضاً إن روسيا تلقّت معلومات عن العملية: «أخبرناهم أننا سندخل... وهم شكرونا أننا أبلغناهم. لكنهم لم يعرفوا طبيعة المهمة». «كانت هناك فقط قوات أميركية في العملية، لكن الروس فتحوا لنا المجال الجوي السوري» في إدلب، وهو ما نفته وزارة الدفاع الروسية، قائلة إنها لا تملك أيّ دلائل موثوقة تؤكد مقتل زعيم «داعش»، مع إشارتها إلى أنها لم ترصد أيّ ضربات جوية من قِبَل الطيران الأميركي أو «التحالف» على منطقة إدلب في الأيام القلية الماضية.
نقطة إضافية أضاء عليها ترامب، حيث أشار إلى أن مقتل البغدادي شكّل لحظة أكبر من مقتل أسامة بن لادن في عام 2011، في ظلّ إدارة باراك أوباما. قال: «هذا أهم ما استحوذنا عليه على الإطلاق»، بمعنى آخر «هذا أكبر شيء على الإطلاق. بن لادن كان إنجازاً كبيراً، بحجم برجَي التجارة العالميَّين، لكن هذا الرجل (البغدادي)، بنى، كما يسمّيها، دولة».