بغداد | حتى صبيحة التاسع من نيسان/ أبريل 2003 (تاريخ سقوط بغداد بيد الاحتلال الأميركي)، لم يكن «التيار الصدري» معروفاً، وفق المؤرخ العراقي رشيد الخيون. الباحث العراقي فاضل الربيعي له رأيٌ مماثل، إذ يعتبر اغتيال عبد المجيد الخوئي، نجل المرجع الديني أبو القاسم الخوئي (10 نيسان 2003)، إيذاناً ببداية ظهور التيار على الساحة العراقية. في المقابل، ثمة من يقول من «الصدريين» إن تيارهم وليد تسعينيات القرن الماضي؛ سنوات الحصار الاقتصادي، وانسداد الأفق أمام الشباب «الشيعي». تلك السنوات تلت الهزيمتين: في الحرب (حرب الخليج الثانية) وفي الانتفاضة (الشعبانية). وعليه، مَثّل حراك الصدر الأب في الفترة المذكورة ملاذاً وأملاً لشرائح مختلفة، من أقصى المتدينين إلى بقايا اليسار، التي وجدت فيه راية للرفض يمكن رفعها أو الاستظلال بها.سقوط نظام صدام حسين ومقتل الخوئي جعلا اسم مقتدى الصدر متداولاً. في الـ11 من نيسان 2003، ومن مدينة الكوفة (156 كيلومتراً جنوبي العاصمة بغداد)، قال ابن الـ29 عاماً إن «الشيطان الأصغر قد ذهب... وجاء الشيطان الأكبر». قبل ذلك التاريخ، لم يكن للصدر حضور بارز، سوى أنه سليل عائلة دينية معروفة، كونه نجل «الصدر الثاني» (محمد محمد صادق الصدر)، فضلاً عن أنه صهر «الصدر الأول» (محمد باقر الصدر، الأب الروحي لـ«حزب الدعوة الإسلامية»). تبنى الشاب، منذ ظهوره الأول، ثوابت عائلته، محاولاً ترسيخ نفسه كامتداد لها، فيما أسهمت حالة الفراغ السياسي التي عاشتها البلاد في تلك الفترة في الإلقاء به سريعاً في دائرة الضوء. لم يجد الصدر صعوبة في لملمة أنصار أبيه، وبعثهم من جديد. كان عليه أن يرتدي كفناً أبيض، في إشارة إلى الاستعداد التام للتضحية، وأن يقف خطيباً على منبر والده في الكوفة، مردّداً بعض أدبياته، حتى يجد نفسه محاطاً بقاعدة جماهيرية كبيرة تهتف باسمه.
من معارك مدينة النجف 2004: مسلحو «التيّار الصدري» في مواجهة الاحتلال الأميركي (عن الويب)

في تموز/ يوليو من العام نفسه، أعلن الصدر تشكيل جيش عقائدي سمّاه «جيش المهدي»، هدفه حماية المراقد والمدن والمرجعيات الدينية. ولأن الجماعات تحمي نفسها بنفسها في الأزمات، أعطى الانفلات الأمني «جيش المهدي» المسوّغ للتمدد والإمساك ببعض المدن. لم يخفِ «الصدريون» كرههم لقوات الاحتلال، ولم يتورّعوا عن إظهار ذلك الكره، سواءً على منابر صلواتهم، أو في الاحتجاجات والتظاهرات التي كانت تعقب «الجمعات» (نسبةً إلى صلاة الجمعة).
هذا النشاط سمّاه الصدر «المقاومة السلمية للمحتل» والتي انتهت بعد عام من غزو العراق، وتحديداً في نيسان/ أبريل 2004، عندما بدأت المقاومة العسكرية. أصبح «جيش المهدي خطراً يهدد الولايات المتحدة» كما قال الرئيس الأميركي حينها جورج د. بوش. ظنّ «الحاكم المدني»، بول بريمر، أن للصدر أتباعاً بالمئات تسهل السيطرة عليهم. في 5 نيسان/ أبريل، هاتَفَ آمر القوات الأميركية في العراق، ريكاردو شافيز، بريمر، وقال له: «لقد فُتح باب جهنم على مصراعيه مع مقتدى». انتفضت بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، في حين ملأ مسلحو «جيش المهدي» الشوارع، بعد صدور بيان لزعيمهم جاء فيه أن «التظاهرات لم تعد تساوي شيئاً، باتت ورقة محروقة، ومن الضروري اللجوء إلى تدابير أخرى... كلٌّ في مدينته». هكذا، بدأت الحرب، فيما لم يكن خيار التفاوض ضمن الحسابات الأميركية. قال بريمر إن أمام مقتدى خيارات ثلاثة: الاستسلام أو الاعتقال أو الموت.
لكن بعد أسابيع قليلة، لم يجد الأميركيون بدّاً من التفاوض. تمّ وقف إطلاق النار وفق هدنة لم تستمر أكثر من أربعة أشهر، ليتجدّد القتال في آب/ أغسطس بين «الصدريين» وقوات الاحتلال، ولكن هذه المرة في مدينة النجف (150 كيلومتراً جنوبيّ بغداد). تكرّر منطق بريمر على لسان وزراء الحكومة الجديدة المُكلّفة من قبله: حازم الشعلان وفلاح النقيب وقاسم داوود، وزراء الدفاع والداخلية والأمن الوطني، فضلاً عن رئيس الحكومة إياد علّاوي. هؤلاء دعوا إلى هدم مرقد الإمام علي على مَن فيه، وإرغام الصدر على الاستسلام من دون شروط. في هذا الوقت، كان المرجع الديني علي السيستاني قد غادر النجف إلى العاصمة البريطانية لندن، في رحلة علاجية، فيما ترك مراجع آخرون المدينة أيضاً، في خطوات قرئت لدى البعض على أنها «قبولٌ» باقتحام المدينة. اشتدّ القتال وطال، حتى إن الصدر نفسه قد أصيب، قبل أن تنتهي المعركة بعودة السيستاني من لندن، وانطلاق هدنة ثانية لم تخرقها معارك مماثلة حتى اليوم. انتقلت المواجهات إلى خارج المدن، واتّبع المسلحون أسلوب الكرّ والفرّ، فيما تطوّرت أساليبهم مع تراكم خبراتهم، وخضوعهم لبرامج تدريبية من خارج العراق، وتسلمهم سلاحاً نوعياً من إيران.
من معارك مدينة النجف 2004: مسلحو «التيّار الصدري» في مواجهة الاحتلال الأميركي (عن الويب)

عقب ذلك، أعاد الصدر تنظيم «جيش المهدي»، مُشكِّلاً فرق «العمليات الخاصة»، ثم «لواء اليوم الموعود». لكن الترهّل الذي أصاب «جيش المهدي» نتيجة غياب النظام الداخلي جرّه إلى التدخل في الحريات الشخصية، قبل أن ينخرط في مواجهات أهلية بدأت بوادرها بالظهور مطلع عام 2005، حتى تفجّرت مطلع عام 2006 عقب تفجير مرقد الإمامين العسكريين في مدينة سامراء (125 كيلومتراً شمالي بغداد). حينها، أحاطت مجموعات تنظيم «القاعدة» العاصمة بغداد من جهاتها المختلفة، حيث كانت تقتل على الهوية وتفجّر الأسواق. في المقابل، نصب بعض مجموعات «جيش المهدي» نقاط تفتيش وهمية، وتورّطت هي الأخرى في القتل على الهوية. عنفٌ لم يقف عند حدود ذلك، بل تُوّج بصراعٍ شيعي ــــ شيعي في مدينة كربلاء (105 كيلومترات جنوبي بغداد) أثناء «الزيارة الشعبانية»، أسفر عن تجميد «جيش المهدي»، لتبدأ مرحلة جديدة ستفتح الباب على تحوّل الصدر إلى لاعب مهم على الساحة السياسية، ورقم صعب في معادلاتها، إلى حدّ وصفه من قِبَل البعض بـ«بيضة القبان» و«صانع الرؤساء».


الصحيفة التي «أقلقت» بريمر
بين عامي 2003 و2004، كانت صحيفة «الحوزة الناطقة»، التابعة لـ«التيار الصدري»، تنشر البيانات المندّدة بالاحتلال الأميركي، وخطابات مقتدى الصدر التي يلقيها من على «منبر الكوفة». أزعج ذلك «الحاكم المدني» بول بريمر، الذي أصدر قراراً بإغلاق الصحيفة بحجة «التحريض على العنف، ونشر الكراهية». كان بريمر شديد الكره لـ«الصدريين»، ولم يتوانَ عن شتمهم ووصفهم بـ«الرعاع»، خاصة أن نشاطهم المفاجئ عقّد حساباته، فيما لم يرغب بعض الساسة من «عراقيّي الخارج» في وجود مقتدى الصدر على الخارطة، وبالتالي لم يجدوا سبيلاً إلى التخلص منه غير تحريض الأميركيين عليه. عقب إغلاق «الحوزة الناطقة»، نظّم التيار تظاهرات على أبواب «المنطقة الخضراء» (وسط العاصمة بغداد)، ما أدى إلى اعتقال بعض قياداته. وفي تلك الفترة أيضاً، فُعّلت قضية مقتل عبد المجيد الخوئي، حيث أصدر رائد جوحي، أحد القضاة في «المحكمة الجنائية العليا» (المُشكَّلة بأمر من بريمر)، مذكرة قبض بحق الصدر. تلى ذلك اعتقال قياديين في التيار، وملاحقة الصدر، الأمر الذي عقّد الموقف كثيراً. فُهم أن الصدر سيُلقى القبض عليه، لكنّ الزعيم الشاب سرعان ما انتفض، وتبعه شارعه مباشرةً.