القاهرة | على رغم المحاولات الحقوقية المصرية منذ نحو عقدين لإيقاف عقوبة الإعدام، إلا أنها لم تؤدّ إلى نتيجة في البلد الذي يعتمد الإسلام مصدراً أساسياً للتشريع، ويصدّر بطريقة أو أخرى مفهوم كون الإعدام «ركناً أساسياً» لا يمكن إلغاؤه. مع ذلك، أفضت تلك المحاولات إلى تخفيض معدلات تنفيذ الإعدام على نحو ملحوظ حتى قبل 2011، وهو تراجع ارتبط بـ«الاستقرار الأمني» واقتصار تنفيذ هذه العقوبة على المتهمين في قضايا قتل جنائية، وفق سجلات القضاء. لكن المرحلة التي تلت 2013، وما تعرّضت له قوات الجيش والشرطة، سواء باستهداف المباني أو الوحدات العسكرية وقياداتها، شكّل نقطة فارقة في ملف الإعدام.في الإعدامات الأخيرة، التي نُفّذ فيها الحكم بحق تسعة شبان متهمين بالمشاركة في قتل النائب العام هشام بركات في منتصف 2015، يمكن القول إنه لم تصدر بيانات إدانة إلا عن «منظمة العفو الدولية» وبعض الجهات الحقوقية، في «صمت مريب» داخلياً، وإلى حدّ ما خارجياً، باستثناء الدول القريبة من أفكار جماعة «الإخوان المسلمون» المحظورة وفق تصنيف الدولة. صحيح أن القرار وتنفيذه جاءا في قضية تعتبر «أعنف عملية اغتيال لمسؤول مصري» منذ نحو عقدين، وفي توقيت بدا رداً انتقامياً على مقتل شرطيين في القاهرة و16 جندياً في سيناء، كما ترى أوساط في الدولة، لكن الخطير أن الأخيرة تتجه إلى تنفيذ مزيد من الإعدامات. إذ خلال شباط/ فبراير 2019 وحده، جرى تنفيذ 15 حكماً بالمجمل، جميعها بموجب أحكام قضائية نهائية، وهو ما ترى فيه تلك الأوساط «ضرورة»، وإلا انتهت هيبة الدولة وقوتها، ومن ثم الاستقرار.

الإجراءات تغيرت
بالعودة إلى الوراء قليلاً، كان يفترض، وفق إجراءات التقاضي قبل نحو أربع سنوات، أن تمرّ القضية على تسعة قضاة خلال ثلاث مراحل آخرها محكمة النقض. كما يشترط القانون لتنفيذ الإعدام إجماع آراء المحكمة، ثم تأتي الأحكام من الدرجة الأولى بالإعدام، لتؤيَّد لاحقاً من آخر درجتين. كل ذلك كان يستغرق وقتاً يتراوح بين ثلاث وست سنوات، وفق طبيعة القضية وأوراقها وانتظام العمل بالتوازي مع مئات القضايا الأخرى. فمثلاً، عقوبة الإعدام بحق أربعة متهمين باغتصاب سيدة في محافظة كفر الشيخ في دلتا مصر في 2006، نُفذت في 2016 بعد استنفاد مراحل التقاضي، أي أن القضية استغرقت عشر سنوات.
لكن تعديلاً أدخله البرلمان الحالي، بسبب الشكاوى من طول القضايا، اختزل مراحل التقاضي إلى اثنتين فقط بدلاً من ثلاث. وفي كل مرحلة، ينظر ثلاثة قضاة في القضية. صحيح أن الاختزال يبدو مخلّاً بمزيد من الضمانات، لكنه اختصر الوقت كما تريد الدولة ومؤيدوها. هكذا، منذ 2011، بدأ «مجلس القضاء الأعلى» تخصيص دوائر لمحاكمة المتهمين في «القضايا المهمة» بتشكيل قضائي اعتيادي، فتمّ تفريغ دوائر جنائية لمحاكمة المتهمين من أجل سرعة الفصل في القضية، كي لا ينشغل القاضي في قضايا أخرى مقابل التي فيها أعداد كبيرة من المتهمين.
هذه السياسة تمّ التوسع فيها بعد أحداث «30 يونيو»، مع استمرار النظر في جلسات التقاضي على نحو استثنائي في «أكاديمية الشرطة»؛ لعوامل مثل صعوبة تأمين جميع المتهمين ضمن عملية النقل، والسعة الاستيعابية لأقفاص الاحتجاز، وغيرها من اللوجستيات التي حتّمت انتقال القضاة من «دار القضاء العالي» وسط القاهرة إلى الأكاديمية استثنائياً.
تبدو «دولة السيسي» قوية لكن الرغبة في الثأر تتزايد يوماً بعد آخر


أما في الاعتداءات التي وقعت على أقسام الشرطة إبّان «ثورة 25 يناير»، فحوكم الضباط والمسؤولون الأمنيون بتهمة استخدام القوة في وجه المتظاهرين الذين سعوا إلى إسقاط النظام وتغييره. لكن بعد «30 يونيو» لم تُوجَّه أي اتهامات إليهم، بل إلى المتظاهرين الذين تنتمي غالبيتهم إلى التيار الإسلامي أو يوصفون بأنهم متعاطفون معه، وكان أهمها «السعي إلى قلب نظام الحكم» و«القتل العمد».

«حمّام دم» لن يتوقف؟
حتى هذه المقارنة بين المحاكمات بعد «25 يناير» و«30 يونيو» قد لا تكون «منصفة»؛ ليس لأنه في ثورة 2011 لم يُقصد عمداً قتل ضباط الشرطة وتصفيتهم، وكذلك ضباط الجيش الذين حموا أقسام الشرطة بعد اقتحامها وفرار ضباط الأخيرة منها، بل لأن الخسائر في الحالتين مختلفة كلياً. ففي «25 يناير» كان الضحايا من الشباب المتظاهرين، في حين أن الضباط فروا هاربين تاركين أسلحتهم وملابسهم بعدما استُنزفت قواتهم وفقدوا الاتصال بالقيادات. وفي 2013، كان العنف متبادلاً بين الدولة مُمثَّلة في الشرطة ومدعومة بوحدات من الجيش، وبين مواطنين قُتل منهم المئات.
هكذا، خلّفت المصادمات التي أعقبت «30 يونيو»، بين الدولة الجديدة بقيادة عبد الفتاح السيسي، وبين أنصار الرئيس الإسلامي المعزول محمد مرسي، عملية دموية لم يستطع أحد إيقافها حتى الآن، ولا يبدو أن هناك أي دلالات على السعي إلى ذلك. وهنا، يستخدم النظام الحالي الإخفاء القسري والتعذيب والتصفية خارج القانون للرد على ما يقول إنها «حرب عصابات» يشنها متطرفون ضده في المدن المصرية عامة، بجانب الحرب مع «ولاية سيناء» وتنظيمات أخرى في سيناء.
جراء ذلك، بات المجتمع المصري أكثر تقبلاً لمسألة تنفيذ الإعدام، وحتى أحكام المؤبد والسجن المشدد لشباب في بداية حياتهم، إذ صارت قضاياهم تفتقد التعاطف على الأقل ظاهرياً، ربما خوفاً من التقارير الأمنية مع وجود مخبرين في كل مكان، وربما تأثراً بالآلة الإعلامية التي تعمل بشدة على ترسيخ صورة ذهنية لدى المواطنين بأن عودة الأمن والقضاء على الفوضى لن يحدث إلا بهذه الطريقة.
وبشأن تنفيذ الإعدامات، يبدو السياق الرسمي مبرراً إلى حد كبير بحجة «تنفيذ القانون بجميع خطواته من دون أي استثناء، وعبر درجات تقاضٍ عادية وغير استثنائية». وعلى المديين المتوسط والبعيد، يواصل النظام تنفيذ هذه الإعدامات، إضافة إلى الممارسات الأمنية المنظمة لمواجهة الإسلاميين وتحجيمهم، وهو ما يولّد طاقة غضب تجاهه تتزايد يوماً بعد آخر، خصوصاً مع فقدان الأمل في القدرة على التغيير. أياً يكن، تبدو «دولة السيسي» قوية عسكرياً ونظامياً في مواجهة أي تحركات مناهضة لها، لكن المؤكد أن حالة الرغبة في الثأر التي تتزايد يوماً بعد آخر لدى أُسر هؤلاء وأصدقائهم ستكون لها تبعات مستقبلاً، خصوصاً أن العامل الأمني وحده لن يكون كفيلاً بالقضاء على التحركات الفردية المناهضة للدولة.