توّج الرئيس عمر البشير شهرين ونيفاً من التظاهرات المطالبة بتنحيه، بقرارات موضعية لم تطفئ غضب الاحتجاجات، التي تجددت، أمس، في حي ود نوباوي في مدينة أم درمان، بالتزامن مع خطاب ألقاه في القصر الرئاسي بحضور قيادات حكومية وأخرى من الحزب الحاكم، أعلن فيه حالة طوارئ في كل أنحاء البلاد لمدة عام، وحلّ حكومة «الوفاق الوطني» وحكومات الولايات، وتأجيل النظر في التعديلات الدستورية التي كانت ستسمح له بالترشّح لدورة جديدة في الانتخابات المقبلة عام 2020.وفيما تعجّ الساحة السياسية بمبادرات على رأسها مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم، ووثيقة «الخلاص الوطني» التي طرحها زعيم حزب «الأمة» الصادق المهدي، وكلها تقترح تنحي البشير وتشكيل حكومة انتقالية لإعداد الدستور وإجراء الانتخابات، لبّى البشير رغبات المعارضة، فقط في ما يتعلق بالحكومة وتأجيل التعديلات الدستورية التي تسمح له بدخول سباق الانتخابات، التي طالما اعتبرها السبيل الوحيد للتغيير، لكنه ترك الباب مفتوحاً في شأن مصيره، الذي يرى مراقبون أنه مرتبط بتوفير «ملاذ آمن» له كونه ملاحقاً من قِبَل المحكمة الجنائية الدولية.
جدّد البشير دعوته إلى الحوار، حاثاً «المحتجين على تجنيب البلاد المصائب» (أ ف ب )

خطوة البشير تتناغم تماماً مع دعوة واشنطن قبل ثلاثة أيام، إلى البحث عن حل سياسي داخلي، عبر رسائل مرّرها المساعد الخاص للرئيس دونالد ترامب، وكبير مستشاريه لشؤون أفريقيا في مجلس الأمن القومي، سيريل سارتر، الذي زار الخرطوم لمناقشة سير المرحلة الثانية من الحوار الهادف إلى إزالة اسم السودان من القائمة الأميركية لـ«الدول الراعية للإرهاب». فالرسالة الأميركية كانت واضحة برفض «إسقاط النظام» الذي قطع علاقاته بإيران وانتقل إلى المحور السعودي عام 2014، والمطالبة بضرورة إيجاد حل سياسي داخلي ينهي الاحتجاجات التي تمثل التحدي الأكبر للنظام.
من هنا، أدخل البشير البلاد في مرحلة سياسية أكثر تعقيداً، بقرارات من شأنها أن تُبقيه لمرحلة انتقالية في قصر الرئاسة، الذي يسعى المتظاهرون منذ 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي للوصول إليه لتسليم مذكرة تطالبه بالتنحي. يريد البشير أن تكون «استجابته» لبعض مطالب المعارضة بداية لطيّ صفحة الاحتجاجات، لكن «تجمع المهنيين السودانيين» الذي يبرمج مواعيد التظاهرات في مختلف البلاد، استمرّ بالتزامن مع خطاب الرئيس في الدعوة إلى التظاهر مساء أمس في تغريدات في «تويتر»، وشدّد في إحداها على أن «تنحي النظام ورئيسه، وتفكيك مؤسساتهم القمعية، وتسليم السلطة لحكومة قومية مدنية انتقالية بحسب إعلان الحرية والتغيير» على رأس مطالب المحتجين، في رفض قاطع للقرارات التي اتخذها، على غرار رفضه المبادرات التي سبق واقترحتها أطراف معارضة من خارج تلك الموقّعة على «ميثاق الحرية والتغيير»، كمبادرة «الإصلاح والسلام» التي أعلنت عنها 52 شخصية سياسية وأكاديمية، دعت إلى إعلان حكومة انتقالية بالتوافق بين قيادة الحراك الجماهيري والقوى السياسية الكبرى.
إعلان البشير حالة الطوارئ وحلّ الحكومة، وتلميحه إلى التخلي عن منصب رئاسة حزب «المؤتمر» الحاكم بالقول إنه «سيقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف الموالين والمعارضين» (كون الفترة التي تسبق الانتخابات تستدعي أن يكون البشير «رئيساً قومياً للجميع» بحسب ما أكد قيادي في الحزب الحاكم)، عدّهما مراقبون محاولة من البشير للتضحية بالإسلاميين بدلاً من أن يضحّوا به، في ظلّ حرب تمور بها السلطة خلف الكواليس، بين جناح يؤيد بقاءه، وآخر يتجه إلى الدفع بمرشح آخر لمنصب رئيس الجمهورية في حال استمرت الأزمة السياسية حتى موعد الانتخابات، كما سبق وأكد مصدر من داخل الحزب الحاكم لـ«الأخبار».
وعلى نحو ما دأب عليه النظام المستمرّ منذ ثلاثين عاماً في مواجهة الأزمات، جدّد البشير دعوته إلى الحوار، حاثاً «المحتجين على الجلوس إلى طاولة الحوار لتجنيب البلاد المصائب». لكن في ظلّ رصيد متخم بالمبادرات التي أطلقها حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم، لم تعد أحزاب المعارضة ترى في الحوارات، لا سيما «الحوار الوطني» الذي أطلقه الرئيس في كانون الثاني/ يناير 2014 بعد احتوائه احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2013، سبيلاً للخروج من الأزمات السياسية والاقتصادية. ورأى البشير، أمس أن «وثيقة الحوار الوطني أساس متين للمّ شمل القوى السياسية في الداخل والخارج»، علماً أن توصيات ذلك المؤتمر لم تؤدّ إلى اصطفاف وطني، بل نجحت فقط في إطالة عمر نظام البشير.