في ذروة ثورة «يناير» (2011) أطلق الشاعر عبد الرحمن الأبنودي تعبير «دولة العواجيز». شاع ذلك التعبير على نطاق واسع وجرى استخدامه في أحوال كثيرة لغير مقصده. بعدد السنين، كان الأبنودي أبعد من أن يُحسب على أجيال الشباب.بغضب الثورة، كان ضد «عواجيز شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكل». في صرخته «شوف مصر تحت الشمس.. آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز»، إيمان بالمستقبل وأجياله الجديدة «مش دول شبابنا اللي قالوا كرهوا أوطانهم»، «هما اللي قاموا النهارده يشعلوا الثورة». لكنه لم يدع إلى أي قطيعة مع الأجيال التي سبقت وأعطت وضحّت في سبيل المعاني نفسها «يرجعلها صوتها... مصر تعود ملامحها»، «تاخد مكانها القديم والكون يصالحها».
هناك فارق جوهري بين وصف دولة ما بأنها عجوز نضبت فيها أي حيوية وتكلست قنواتها السياسية والاجتماعية ولم يبق غير إزاحتها من المسرح السياسي وبين استخدام التعبير ذاته لنفي أي تواصل في العمل الوطني وقتل كل أب، كأن التاريخ بدأ الآن. ضايق الأبنودي بأكثر مما يتصور أحد استخدام تعبيره في النيل من أي قيمة ثقافية وأدبية، أو صحافية، وسياسية لمجرد تقدمها في العمر. لم تكن دولة مبارك عجوزاً بأعمار مسؤوليها الكبار الذين بقي بعضهم على مقاعد السلطة لما يقارب الربع قرن، بقدر ما كانت في أفكارها وخيالها ووسائلها وخياراتها، تعاكس مجتمعها وتناقض احتياجاته منعزلة عن أنينه ومظالمه. «قول إنت مين للي باعوا حلمنا وباعوك... أهانوك وذلوك ولعبوا قمار بأحلامك».
لو كان نظام مبارك كله من الشباب فإن السقوط كان محتماً. التفكير العجوز صلب دولة العواجيز، فهو انعكاس لحالة ضمور خيال وفقر فكر وقطيعة مع ضرورات العصر ــــ كأن مصر يمكن أن تحكم بوسائل استهلكت زمنها أو أن يسودها استقرار يتأسس على مظالم اجتماعية متفاقمة. بحكم السن، فإن ٦٠٪ من المصريين تحت الخامسة والثلاثين. هذه حقيقة تستدعي ضخ الدماء الشابة في شرايين الدولة، شرط أن ندرك أن السياسات والأفكار قبل الأعمار وأعداد السنين.
إذا كان هناك من يضايقه تمرّد الأجيال الجديدة، فكل الأجيال التي سبقتها تمردت. الرهان على المستقبل إذا لم يكن تمرداً على كل ما هو محتل أو فاسد ومستبد فلا أثر له ولا معنى. رغم انكسار ثورة «يناير»، فإن ما خلّفته تحت الجلد السياسي في طلب الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة يستحيل تجاوزه ــــ مهما كانت مستويات التراجع عما طالبت به. بالتعريف: «يناير» جذر الشرعية الدستورية، ولا توجد شرعيات معلقة في الفضاء بلا أرض تقف عليها. عندما تضرب الثورة في جذرها الدستوري، يصعب الحديث عن أي شرعية. الدساتير ليست مقدسة، لكنها ليست لعبة. وبالأثر، فإنها ــــ كأي ثورة أخرى في التاريخ ــــ ليست جملة عابرة تذهب إلى حال سبيلها بالنسيان، أو التجاهل. هناك فارق جوهري بين قوة الدفع والقوة الكامنة. قد تتوقف قوة الدفع قبل أن تحقق الثورات أهدافها، ذلك حدث مراراً في تجارب تاريخية مماثلة، غير أنه لا يعني موتها سريرياً. بقدر القوة الكامنة في بنية الوعي العام وعمق المجتمع، فإنها قد تتجلى على غير انتظار خارج كل التوقعات والسيناريوات. من مصادر تلك القوة ما استقر لدى الأجيال الجديدة ــــ كأصحاب الحق في المستقبل ــــ من نظر إلى فعل الثورة بنوع من التماهي، فالمس بها إلغاء لهم. ومن مصادرها ارتباط «يناير» بثورة المعلومات والاتصالات، بما يجعل مستحيلاً فصم العلاقة بين الأجيال الجديدة وطلب الالتحاق بالعصر، وما ترسّب عميقاً في الذاكرة الجماعية عن أجواء الثورة وأحلامها، مشاهد الجموع وهي تتدافع في طريق واحد، صلوات المسلمين في ميدان التحرير تحت حماية الأقباط خشية الاعتداء عليهم، والاستعداد للتضحية بالروح دون وجل، والغناء الجماعي ورسوم «الغرافيتي».
كل المواجهات الكبرى والتفاصيل الصغيرة مصادر قوة كامنة يصعب تحديها في أي مستقبل.
في أول العرض التاريخي جرى ما يشبه «التقديس» للفعل الثوري شاملاً جماعات الشباب، فهم «أفضل جيل في التاريخ المصري الحديث»، «لا قبلهم ولا بعدهم».
كان ذلك نفياً لتواصل الحركة الوطنية المصرية جيلاً بعد آخر، وتسطيحاً في الوقت نفسه لطبيعة الثورة. ثم جرى بعد ذلك تفكيك وحدة الجيل قبل أن ينكّل به ويشهّر بسمعته باعتبار رموزهم طابوراً خامساً يتآمر على الدولة. كان ذلك قمة المأساة في القصة كلها. لكل جيل قضية تلهم مخيلته، رغم أي إحباطات. الحرية قضية هذا الجيل. مشكلته أن الثورة التي تصدر مشاهدها المهيبة سبقت تجربته، وشعاراتها غلبت مبادئها. نجح في استدعاء الإلهام إلى الشوارع المفتوحة، تصدر الصفوف لكنه لم يدرك بما هو كافٍ أن القوى الجماهيرية هي التي حسمت، كسر نظام حسني مبارك دون أن يكون في وسعه تأسيس أوضاع جديدة تعلن القطيعة مع الماضي. غضبه سبق برامجه وعضويته بدت عابرة لما هو حزبي أو أيديولوجي، وأي مراجعة لانتماءات قيادات «كفاية»، التي أخذت زمام المبادرة في تحدي «التوريث» و«التمديد»، أو «الجمعية الوطنية للتغيير» التي احتوت الغضب نفسه في مرحلة تالية، أو «ائتلاف شباب الثورة» الذي أعلن عن حضوره في ميدان التحرير تثبت دون شك تنوعها السياسي بحثاً عن شيء من القوة في مواجهة تغوّل النظام. كان الانضمام فردياً لا جماعياً، شخصياً لا أيديولوجياً، والأهداف العامة سادت الموقف كله. طبيعة النشأة وفّرت حيوية تفتقدها الإطارات السياسية المتهالكة وساعدت على نمو موجات الغضب، وألهمت التغيير، غير أنها عجزت عن أن توفر أي قيادة، أو تصوغ أي برنامج. وقفت قوة الدفع في منتصف الطريق، لا حطّمت كل قديم مستهلك ولا أسست لأي جديد ثابت يليق بما طلبته من أهداف وبذلته من تضحيات. جماعات الغضب حملت التغيير إلى الميادين لكنها عجزت عن أن توفر طبقة سياسية جديدة تزيح ركام الماضي، أو تحفظ الثورة من الانقضاض عليها. الخروج عن السياق طبيعة ثورة وتأسيس القواعد قضية مستقبل. هكذا اختطفت جوائز الثورة، ودخل جيلها دوامات الإحباط المبكر. الإحباط، مهما علا سقفه، ليس كلمة النهاية. الحجر على ما في الصدور خرافة ومطاردة الأفكار جهل بالتاريخ. كشأن كل جديد الخيال مختلف والذائقة العامة لها خصوصيتها. في الإبداعات الأدبية والفنية نزوع قوي لفكرة «الحرية» والتعلق بها مسألة وجود. هذه القيمة جوهر أي رهان مستقبلي على بناء دولة حديثة، حرة وعادلة، لا تحبس مظلوماً أو تنكّل بصاحب رأي.
كانت لحظة الثورة التي تصدروها ذروة الدور قبل أن تستوفي الرؤى والتصورات نضجها. على عكس جيلي الأربعينيات والسبعينيات افتقد الثوار الجدد أي بنية فكرية تحدد ما يقصدونه من حرية وعدل اجتماعي، فأصبح ممكناً لكل من يطلب خطف الثورة أن يفعلها بسهولة كاملة. كأي جيل آخر فهو يحتاج إلى وقت تنضج فيه الأفكار، وخبرة تساعده على تجنب المطبات. أمامه فسحة من الزمن لكي يرفع كل الركام الذي يحاول أن يقطع طريقه.
قصة الجيل الجديد بالكاد بدأت.
* كاتب وصحافي مصري