تونس | يوم 15 كانون الأول/ ديسمبر 2016، اغتيل محمد الزواري أمام منزله في مدينة صفاقس جنوب تونس. في البداية، لم يكن اسم الرجل معروفاً، لكن بعد ساعات قليلة بدأت المعلومات تظهر. خرج صديق له على شاشة تلفزة محلية، وقال إن الزواري مقاوم شارك في مشاريع عسكرية مع «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس)، ورجّح فرضية اغتياله على يد جهاز «الموساد» الإسرائيلي.مثلت هذه المعلومات صدمة خاصة مع صمت وزارة الداخلية المطول. تكاثرت الأسئلة: لماذا لم توفر حماية للرجل؟ كيف تُرك ظهره مكشوفاً؟ جاءت الإجابة الرسمية بأنه لم يُعلم السلطات بانتماءاته، وكل ما هو معروف بخصوصه، قربه خلال التسعينيات من «حركة النهضة»، ثم خروجه من البلاد هارباً بهوية مزورة (نعلم الآن أنه تنقّل بين ليبيا بداية ثم سوريا والسودان وغزة). تبيّن لاحقاً أن الزواري عاد إلى تونس بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي بنيّة مساعدة شباب بلاده التي حُرمها لوقت طويل. عاد إلى جامعة صفاقس التي درس فيها سابقاً، وتواصل مع الطلبة، فأسّس نوادي للطائرات من دون طيار، ميدان نشاطه في المقاومة، ونظّم أنشطة على امتداد البلاد، سهّلت اغتياله.
أمس، أنهت السلطات التونسية تحفّظها عن الحديث في القضية، وقدمت في مؤتمر صحافي تفاصيل عامين من العمل الأمني والقضائي الذي جرى بتعاون مع «الشرطة الدولية» (الإنتربول). وكما أُعلن سابقاً، على نحو غير رسمي، نفذ الاغتيال شخصان يحملان الجنسية البوسنية، هما كانزيت ألان وألفين ساراك. وقد أُوقف الأول في مطار في كرواتيا في آذار/مارس الماضي، فيما أُوقف الثاني في سراييفو في أيار/مايو، لكن رُفض تسليم كليهما لتونس لأسباب تتعلق بقوانين البوسنة. وقد توصل الأمن التونسي إلى تحديد هويتيهما عبر تتبع خيوط القضية، وتحليل تسجيلات 25 كاميرا مراقبة وتقفي تحركات أكثر من 130 ألف أجنبي، والتحقيق مع نحو 200 منهم.
تبيّن في التحقيقات أنّ المتهمين وصلا إلى تونس قبل تنفيذ الاغتيال بأيام، واستقرا في نزل في مدينة القيروان (وسط)، ثم أجريا رحلات سياحية نحو الجنوب للتغطية، وقدما نفسيهما خلالها كصاحبي وكالة تعمل في القطاع، ثم زارا بعض المصانع إلى أن توجها إلى صفاقس في مرحلة لاحقة بحجة شراء زيت الزيتون الذي تُعرف المنطقة بإنتاجه. لم تخلُ العملية من وجود مساعدة محلية، لكن المتعاونين الثلاثة لم يكونوا على علم بالتفاصيل، وقد أطلق الأمن سراحهم بعد اقتناعه بذلك، وفق المؤتمر. عمل هؤلاء على اكتراء السيارات، إذ استأجروا ثلاثاً منها استُعملت في الاغتيال. وأُكِّد ما ذُكر سابقاً بشأن تورط مواطنة تونسية عبر تكليفها، من طرف وكالة أنباء أجنبية وهمية، تغطية أنشطة الزواري.
وفق مسؤولي «الوحدة الوطنية للتحقيق في الجرائم الإرهابية»، وصل فريق الاغتيال إلى صفاقس بسيارة، ونفذوا العملية بسيارة ثانية، ثم غادروا بثالثة. لكن كيف تعقبوا الزواري؟ تقول الوحدة إنهم اخترقوا هاتفه الذي اشتراه من تركيا، وهي أحد البلدان التي أرسلت إليها تونس إنابات قضائية، إضافة إلى السويد والبوسنة وكوبا ومصر ولبنان (خُطط للعملية أيضاً في سويسرا وإيطاليا والولايات المتحدة وهنغاريا). لذلك، ترجح السلطات التونسية أن القاتلين كانا يعرفان توجهات الزواري من طريق الاستماع إلى مكالماته. في يوم التنفيذ، جلسا في مقهى قريب من منزله، ولم يتعقّباه عند خروجه لقضاء شؤون خاصة، بل انتظراه إلى حين عودته، ثم نفذا الاغتيال وهو جالس في سيارته أمام منزله بواسطة مسدسين قيل سابقاً إنهما طُليا بمادة مجهولة لإخفاء البصمات.
نفت مصادر «قسد» وجود مفاوضات مع «داعش» لتسليم المنطقة


بعد ذلك، تُركت السيارة والأسلحة والهواتف وأشياء أخرى داخلها، وأُتلف هاتف الزواري في الأثناء. يقول مسؤولو الأمن إن المنفذَيْن «على درجة عالية من الحرفية»، إذ شتتا جهود السلطات بترك أدلة مضللة في السيارة، بهدف دفعهم إلى التركيز على المنافذ الحدودية في جنوب البلاد ووسطها، فيما توجها نحو العاصمة وغادرا مساءً على متن باخرة من ميناء حلق الوادي. وتفاقم تشتُّت الأمن بوجود عدد ضخم من الأجانب في البلاد خلال الصيف الذي يمثل موسم الذروة السياحية.
أما في ما يخص الجهة التي تقف وراء الاغتيال، فتمنعت السلطات عن التصريح بما هو واضح، لأنه بالنسبة إليها «لا يمكن التأكد من الأمر دون استنطاق المتهمين بالتنفيذ». مع ذلك، تبدو يد «الموساد» واضحة، فإسرائيل هي العدو الوحيد للزواري، واضطلاعه بدور في مشروع طائرات «الأبابيل»، ثم عمله على مشروع غواصات صغيرة مسيّرة، سببان كافيان للسعي إلى تصفيته. لكن المختلف في هذه العملية هو التعويل في تنفيذها على عناصر خارجيين افتُضحت هويتهم واقتُفيت آثارهم، خاصة أنه اعتُمد سابقاً، على الأقل في اغتيال أبو جهاد بداية التسعينيات، على جهود «الموساد» الذاتية، كما نُشر من معلومات حول تلك العملية.
كل ذلك لا ينفي وجود تقصير في تأمين الزواري سمح بانكشاف اسمه ودوره ومكانه، فحماية الكوادر من أمثاله أمر سابق على كل شيء آخر، سواء من ناحية المقاومة أو بلد الإقامة أو الشخص نفسه. والأكثر استغراباً «الخجل» من اتهام، أو التلميح، إلى «دولة عدو»، بالاتهام.