ما زال «حزب الدعوة الإسلامية» تحت وقع الصدمة جرّاء خروج السلطة من قبضته، مع انتهاء عهد قيادته لحكومات العراق المتعاقبة منذ 2003 حتى تشرين الأوّل الجاري (مع تكليف عادل عبد المهدي تأليف الحكومة الاتحادية المقبلة). وفي محاولةٍ منها لاستيعاب تلك الصدمة، دعا قادة الحزب إلى عقد «مؤتمرٍ عام» لإعادة اللُّحمة بين أفراده. صدمةٌ دفعت هؤلاء إلى التخبط في تصريحاتهم الإعلامية، حتى أعلن بعضهم على الملأ ـــ وبشكلٍ متفقٍ عليه ـــ أن «الدعاة» لم يكن لديهم أي وزير، رغم إدراكهم الحقائق، إذ خاض غالبيتهم غمار الفوز بالمناصب والتلذذ بالحكم والسلطة حد التشبث بها، حتى وصل حال بعضهم إلى إعلان حالة الطوارئ، وطرح نظريات تدعو إلى «الانقلاب السياسي». فمنذ 2003 (تاريخ سقوط النظام السابق على يد الاحتلال الأميركي) عاد «الدعوة» إلى العراق بتشكيلين رئيسين: الأوّل «حزب الدعوة» بقيادة إبراهيم الجعفري، والثاني بمسمى «حزب الدعوة تنظيم العراق» بقيادة خضير الخزاعي. وبعد عام على تولّي الجعفري رئاسة الوزراء (2005 ـــ 2006)، وتسليمه السلطة لنوري المالكي، انشقّ الجعفري عن الحزب، مؤسّساً «تيّار الإصلاح الوطني»، ليصبح المالكي بذلك الأمين العام للحزب. في المقابل، انشقّ أيضاً عبد الكريم العنزي من «حزب الدعوة تنظيم العراق»، مشكّلاً حزباً جديداً آخراً سمّاه «حزب الدعوة تنظيم الداخل»؛ وبالتالي لكلا التشكيلين القديمين والجديدين وزراؤه في الحكومات، إلا أنّهم ذابو تحت مسمى انتخابي بزعامة المالكي: «ائتلاف دولة القانون».
حافظ المالكي على منصب رئيس الوزراء لولايتين متتاليتين. ومع سعيه لتولّي «الثالثة»، أطاح «التحالف الوطني» (الائتلاف النيابي الموسّع الذي يضم القوى السياسية الشيعية في البلاد) آمال المالكي، مرشّحاً نائبه في «الدعوة» حيدر العبادي، مكلّفاً إيّاه تأليف الحكومة. ترشيح العبادي ـــ آنذاك ـــ وافقت عليه أغلب الكتل السياسية، باستثناء المالكي الذي رأى أن رئيس الجمهورية خرق الدستور، مؤكّداً أنّه سيرفع دعوى قضائية ضده، ولكنه تراجع لاحقاً، وأعلن تنازله ودعمه للعبادي.
مع تسمية العبادي، التأم «الدعاة» بعد مناخٍ ساد الحزب «أننا سنضيع بسبب تشتتنا». عادوا إلى الاصطفاف من جديد على مضض، إلا أنّهم عدلوا عن موقفهم، وخاضوا الانتخابات التشريعية الأخيرة متناحرين تحت مسميَّين: «القانون» و«النصر»؛ عندئذ تعالت صرخات «الدعاة» بضرورة العودة إلى «البيت الواحد» حفاظاً على تاريخ الحزب.
انشقاقات «التيّار الصدري» لم تكن بحثاً عن المشاركة السياسية


أما «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، الذي دخل البلاد بعد سقوط نظام صدام حسين، فقد شارك في جميع الحكومات المتعاقبة بأسماءٍ متعددة. مرّ «المجلس» بمراحل متشابهة بتلك التي خاضها «الدعوة». فبعد رحيل مؤسسه محمد باقر الحكيم، تولّى أخوه عبد العزيز الحكيم رئاسة الحزب. بعدها أصدرت «الهيئة العامة» قراراً بحذف كلمة «الثورة» ليكون المسمى الجديد «المجلس الأعلى الإسلامي»، الذي انخرط في العمل السياسي بقوّة. وبعد وفاة الحكيم، وتسلُّم ابنه عمّار زمام القيادة، جرت محاولات «تصحيحية» عدّة لم ترُق «رفاق السلاح»، فانشقت أوّلاً «منظمة بدر» لتشكّل وحدها تنظيماً حزبيّاً بقيادة هادي العامري، ومارست العمل السياسي أيضاً حتى تولّى العامري نفسه وزارة النقل. أما الانشقاق الثاني، فجاء بعد صراعٍ داخليٍّ مرير، خرج على إثره عمار الحكيم بمجموعة قراراتٍ «مصيرية»، معلناً تشكيله عن «تيّار الحكمة الوطني»، والمكوّن من مجموعة شبابٍ تاركاً رواد الحزب بذات المسمى القديم، بقيادة همام حمودي وبيان جبر صولاغ.
الحال لم يكن مختلفاً مع «التيّار الصدري» بزعامة مقتدى الصدر، الذي غيّر تسميته أكثر من مرّة، لدواعٍ متعددة، فمن «جيش المهدي» إلى «اليوم الموعود»، و«سرايا السلام» وغيرها، تبعاً للظروف السياسية التي رافقت نشأته. إذ انطلق الزعيم الشاب مناهضاً للاحتلال الأميركي، قبل أن يشهد «التيّار» موجة اقتتالٍ داخلي وصراعاتٍ كثيرة وكبيرة، بعد قرار الصدر «تجميد جيش المهدي»؛ فأسس قيس الخزعلي «عصائب أهل الحق»، وشبل الزيدي «كتائب الإمام علي»، وعدنان الشحماني «التيّار الرسالي». هذه المجاميع وغيرها انبرت للدفاع بشكل وطني عن العراق وسوريا ضد تنظيم «داعش»، وشكّلت في ما بعد إلى جانب فصائل المقاومة نواة «الحشد الشعبي»، متخذةً من فتوى «المرجعية الدينية» بـ«الجهاد الكفائي» منطلقاً لها، حتى أصبحت واقعاً لا محالة.
وحتى نكون موضوعيين، فإن الملاحظ على انشقاقات «التيّار الصدري» أنها لم تكن بحثاً عن المشاركة السياسية من عدمها في الحكومات السابقة، لا بل صراعات داخلية نتيجة قناعة راسخة بضرورة إخراج المحتل وطرده، ما حدا قياداته إلى فرط عقدهم وتشكيل فصائل جديدة تنظّمت تدريجاً، بعكس انشقاقات «الدعوة» التي كانت بحثاً عن السلطة، وتحديداً رئاسة الوزراء. فتراهم يبتعدون كثيراً خلال أوقات الرخاء، ويجتمعون أيّام المحنة مجدّداً في الانتخابات ولحظة تقاسم المناصب. أما «المجلس الأعلى»، فكان خليطاً بين الصراع الداخلي والصراع السلطوي، فلم يقبل الروّاد الأوائل أن يتولّى ربيبهم قيادتهم، فأخذت تتشكل حركة داخلية تدفعهم إلى السخط وعدم الرضا. في المقابل، كان عمّار الحكيم مقتنعاً ـــ إلى حدٍّ ما ـــ بعدم التوافق الأبدي، خصوصاً أن الصقور أخذت تنهش بحمائمها وتحجّم دورهاً، ما جعلهم يقلبون الطاولة ويتخندقون معاً في حركة غريبة تحتاج إلى كثير من التوقّف.