من لعنة الدم إلى رطوبة النكتة، هذا هو حال السوري يتنقّل بين الضفتين منذ أطلقت المعارضة برنامجها في 2011 وحمل عنوان: «نريد إسقاط النظام ولو جاء الشيطان». جاء الشيطان فعلاً، وبدأ الجميع بالحفر، وبدأ البلد يحترق، وبدأنا نحصي عدد السوريين المهجرين والمهاجرين والنازحين والمخطوفين والمشردين، وبدأنا نرصد الاحتمالات ونعيش على التوقعات والتنبؤات. كبرت الأزمة ودخلت المدرسة، بلغت السابعة وتجاوزتها، لم تعد دمشق قادرة أن تكون لنفسها كما كانت لبيروت وبغداد ولكل مدينة عربية سبقتها في الزلزال، ولم يعد لسكانها القدرة على أن يكونوا سوى موظفين على قيد الموت والاحتمال، ومستهلكي وهم بعد أن كانوا مصدّري قمح ومنتجي نفط ورافعي شعار صفر ديون. ضاقت المساحة وتقلصت أحلام من تبقى لمساحة قدم واحدة حافية وفسحة لصرخة تصل مسامع الله وتقول له «كفى، أوقفوا هذه المحرقة». نريد أن نملأ البطون الخاوية ونكسي الأيدي العارية، نريد معطفاً وقفازات لا قاذفات، نريد قبعة يطير منها الحمام. نريد أن نقرأ قصص ألف ليلة وليلة ونضحك خجلاً من لغتها البذيئة؛ نريد أن نسترق النظر إلى شقاء قبلة اختطفها عاشق من جنون عاشقة؛ نريد أن نملأ الفراغ بالأفكار لا الثارات؛ نريد أرضاً باردة لا ساخنة ودماً يغفو وينام؛ نريد أيدي معقمة لا أيدي تصنع النكبة؛ نريد ضميراً لا يذوب في سحر المال؛ نريد أطفالاً يمتطون ظهر الحياة لا الموت؛ نريد أن ننظر إلى داخلنا، هناك، حيث تصنع التسويات الكبرى، وهناك، حيث يتسلل الحلم الى عظام المستحيل، لم تعد تسحرنا اللحظة الأولى، يقتلنا الشوق إلى اللحظة الأخيرة، اللحظة التي يتوقف فيها إطلاق النار على الحقيقة، اللحظة التي تتوقف فيها قهقهات جنيف والرياض واستانة، اللحظة التي تتوقف فيها ثرثرات الشاشات ومفارقات الأرصفة، اللحظة التي تتوقف فيها العازبات عن قراءة النعوات، اللحظة التي تعلن موتنا من الضحك والدهشة، اللحظة التي تعلن سورية مهرجاناً للياسمين.جرّد «الشيطان» السوري من كل ما يملك، وبات كما منزل على العضم يتيماً إلا من النكتة التي أصبحت وسيلة الإيضاح الأبرز في حياته بعد الأزمة، والنكتة هنا، لا تأتي بمعنى الإضحاك، بقدر ما تأتي حاملة معها حِسّ المفارقة، يحدث ذلك، ليس بعد سبع سنوات من الحرب فقط، وليس بسبب التهجير والقتل والتدمير أيضاً، بل ما يتجاوز ذلك بكثير، وهو إدراك السوري وبكثير من جرأة الوقائع ووقاحتها حجم الأثمان القاتلة التي دفعها مقابل الإنجازات الميتة التي هجّرت هي الأخرى نصف السكان وأزاحت من تبقى.
هي النكتة، سلاح السوري الأخير المضاد للحزن والخيبة والصواريخ العابرة للمحيطات، يرميها ويمشي، فيغرد ويبكي ويضحك في آن معاً، يعيش الحقيقة تماماً كما يعيش الوهم، يمدّ يده للحزن تماماً كما يمدّها للفرح. بالأمس كان بإمكانك أن ترى شعباً بأكمله متعاطفاً يبكي أباً التهم الخيبة بعدما فقد أمله بالعثور على ولده المخطوف في دوما، تقمص السوريون الحالة وعاشوها، رأى الجميع الابن المخطوف تماماً كما رآه الأب في الحلم، بوجه مختلف، استيقظوا بعدها متعبين، بحثوا عنه، ثم عادوا ليغرقوا في وجه الوسادة وفي تفاصيل ذاك الوجه النحيل المتعب، عاشوا مع أهالي المخطوفين اللحظات الأسوأ التي كانت تنتظر خارج الحلم، هناك، على المعابر، وعلى الشاشات، في وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى لسان المحللين وفي كل المحطات التي استمرت في بيع الوهم منذ بداية الأزمة... حتى وقفوا أخيراً على باب الحقيقة التي عثروا عليها ممددة في صالة الفيحاء حادة، جارحة، وصادمة، ولم يستطيعوا فعل شيء سوى تقبّل الخبر بروح رياضية كما تتقبل الجماهير طعم الخسارة في مباراة ودية... أن تتجمد في المكان وأنت تسمع خبر الإعدام: «لم يعد هناك مخطوفون»، ثم تعود لتجلس من دون أن تستطيع النظر الى وجه تلك السيدة الخمسينية التي جاءت لتخلع سوادها بعد سنوات من الانتظار. وكما حال الأب المتعب الذي عاد وحيداً، عاد السوريون، كُلّ إلى غرفته الضيقة، إلى سجن نفسه ليكذّب وهم العدالة، وليمزق عباءة تلك العبارة الفضفاضة «كلو فدا الوطن» التي يرميها في وجه الكاميرا في لحظة قوة، وبعدها بثوانٍ يترجّل عن حصان ضعفه وكذبته الكبيرة.
انتهى الجزء الأول من الفيلم التراجيدي السوري بطي ملف المخطوفين، ليبدأ بعدها وبفاصل يوم واحد الجزء الثاني من الفيلم السوري «الكوميدي» هذه المرة. الرئيس الأميركي دونالد ترامب غرّد على تويتر أنه سيوجه ضربة إلى سوريا، خرج السوريون من الحزن وعادوا ليغرقوا مرة أخرى في الضحك وفي مجازفة النكتة التي باتت سيدة اللحظة. وها هنا سنعثر على الحس العالي في السخرية والتقاط المفارقة في تعليقات السوريين الذين يخاطبون بعضهم على وسائل التواصل الاجتماعي حائرين بين النكتة التي تضحك والنكتة التي تبكي. نقرأ: «ضربة ترامب تذكرنا بضربات الكابتن ماجد لما كان يضل يوم كامل رافع رجلو ليشوط الطابة ويوم كامل تبقى الطابة بالهواء ويوم كامل رعد شالف حالو على الطابة وآخر شي يضرب الكرة بالعارضة وتطلع برا». «يرحم بيكن بعتو شي قرش يعضّ الكبل تبع الانترنت عنده أو طفّو الراوتر بالبيت الأبيض». «لمعرفة موعد الضربة الأمريكية أرسل رسالة فارغة على الرقم ١٢١٣ بقيمة ٥٠ ليرة سورية واشترك في الخدمة... سيرياتيل معك على طول». «رئيس دولة وبضل فاتح تويتر وأنا بس يشوفوني فتحت نت بقلولي ضيعت مستقبلك». «قال رضينا بالضربة والضربة ما رضيت فينا».
وحدث العدوان فعلاً، لكن روح النكتة بقيت ممددة وسخيّة كما روح السخرية وهذا تعليق يقول: «طلع العدوان متل الـترامب عالبلاط». وآخر يقول: «اللي كانوا نايمين ومو حاسين على شي كيف بدك تقنعهن أنو أمريكا كانت عم تضربنا؟».
هذه هي سوريا التي تشبهنا قبل الأزمة وبعدها، قبل العدوان الثلاثي وبعده، سوريا التي تزغرد فيها سيدة للدفاعات الجوية فتمسح غبار الصواريخ الغبية وعارها القادم من دولة عربية. «أعيدوا إلينا مسروقاتنا من الأمل والفرح والحلم والهذيان» تقول صبية شامية.