أحلام كثيرة يحملها معهم السوريون الهاربون إلى ألمانيا، التي تمثل وعداً سخياً بالخلاص، يركبون لأجله قوارب الموت، ويمنحون حصاد عمرهم للمهربين دون حساب احتمالات الخسارة والموت. لكن ما لا يتوقعه الناجون من غيلان الطريق، أنهم بعد وصولهم إلى ما يحسبونه الفردوس المفقود، سيعلقون في شباك العزلة والوحدة، حين يكتشفون أن نافذة غرفة «الكامب» لا تطل على جيران ودودين، ولا وجوه مألوفة يلقون عليها السلام.
سماح الجندي، ابنة مدينة الحفة، هي واحدة ممن قادهم الطريق نحو ألمانيا، إلا أن معلمة اللغة الإنكليزية، الأربعينية، صاحبة المبادرات المجتمعية التطوعية الخاصة بالبيئة والدعم النفسي ودمج التكنولوجيا بالتعليم، عايشت وهي في غرفتها في الكامب بمدينة غوتنغن، الشعور بالوحشة، والوحدة في غياب من يناديها باسمها أو بلقب «كوتش» الذي كان يناديها به طلابها في سوريا. كان «الكامب» يغص بلاجئين من جنسيات مختلفة، ولا لغة مشتركة للتواصل بينهم، وسماح، التي ترتدي الحجاب، الذي يعلن هويتها الدينية والاجتماعية، كان عليها بذل جهود إضافية للتعريف بنفسها، في ظل انتشار ظاهرة «الإسلاموفوبيا» وما تفرضه من أحكام مسبقة، لكن عدم إتقانها اللغة الألمانية كان بدوره حاجزاً أمام التواصل.
العزلة والحاجة لكسر الحواجز مع المجتمع الألماني، كانا الدافع الذي جعل سماح تسأل نفسها: «كيف يمكن أن أتواصل مع المجتمع الألماني، وأتمكن من تكوين صداقات مع أبنائه؟ وكيف لي أن أتابع ما كنت أفعله في بلدي والتطوع لمساعدة الآخرين والتأثير في حياتهم؟». من هنا، تبلورت في ذهنها فكرة برنامج يتيح الحوار والتواصل بين اللاجئين السوريين والألمان، وبدأت تبحث عمن يساعدها للانطلاق به، تقول: «قابلت مديرة المركز الاجتماعي التابع للكنيسة الإنجيلية، وشرحت لها أن القادمين الجدد إلى ألمانيا يحتاجون إلى سبل للتعريف بأنفسهم، والتواصل مع الآخرين لتجاوز المفاهيم الخاطئة والتصورات المسبقة، وطرحت عليها فكرة جلسات حوار باللغة الإنكليزية، سميتها: let's talk (لنتحدث معاً) تجمع اللاجئين والألمان. ولحسن الحظ، أعطتني مباركتها وأمّنت لي مكاناً لاحتضان اللقاءات». وتشرح عن جلسة الحوار الأولى، التي تعمدت أن تكون في يوم الجمعة نظراً إلى وجود مسجد قريب من مكان الاجتماع، حيث اعتقدت أن اللاجئين سيخرجون من الجامع ويأتون إلى الجلسة، لكن المصلّين لم يأتوا. الجلسة انطلقت بقدوم مجموعة صغيرة من السوريين والألمان ممن لديهم رغبة حقيقية في التواصل وفهم الآخر، «ابتسامة لطيفة، شاي سوري بالقرفة والنعناع، قهوة ألمانية، مكسرات، وجو عائلة واحدة، هذه كانت أدوات الجلسة التي جمعت بين اللاجئين والألمان، في سعي لخلق حوار وتعرف كل منهم على الآخر» تقول. وبعدما انتهت الجلسة، التي شعر خلالها الجميع بالألفة والحميمية، عادت سماح إلى غرفتها في «الكامب»، وهي تتساءل: «ماذا لو لم يأت أحد في المرة المقبلة؟»، لكن المشاركين استمروا في حضور الجلسات، التي كانت سماح تدير الحديث فيها حول العمل التطوعي، الأسرة، السلام، الديانات، العادات، «الإسلاموفوبيا»، نمط الحياة الجديد، والحاجة إلى العمل وتعلم اللغة. «الألمان شعب حذر لا يفتح قلبه بسهولة، وهذا طبيعي. فلا أحد يفتح قلبه لغريب لا يعرفه، وخاصة في ظل الصورة التي يتداولها الإعلام الأوروبي عن الإسلام، علاوة على وجود لاجئين متشددين ينظرون إلى الألمان على أنهم كفرة، فكيف يمكن أن يفهمونا إن لم نتواصل معهم ونعبر عن أنفسنا؟» تشرح سماح.
الجلسات تطورت يوماً بعد يوم، وباتت تتضمن أمسيات موسيقية، وزيارات للقادمين الجدد في غرفهم في المخيمات للترحيب بهم، علاوة على تبرع سيدات ألمانيات بزيارة الأسر والقراءة للأطفال، وسرعان ما وصل الأمر أبعد من ذلك، إذ فُتح الباب أمام تقديم المساعدات العينية والخدمية لمن يحتاج إلى المساعدة. «مشاركتي في تلك اللقاءات كانت بمثابة فتح نافذة على عالم اللاجئين، الذي لم أكن أعرف عنه شيئاً، وحاولت أن أتكلم الإنكليزية، رغم أني لست بارعة جداً في التحدث بها، وتعرفت الى أشخاص جدد، حاولت أن أفهم تاريخهم وثقافتهم». تقول أولرايك أرنولد، معلمة ألمانية شاركت في البرنامج، وتشرح عن أحد المشاركين السوريين الذي كان يتحدث أثناء الجلسات عن كوابيس وأعراض عصبية يعانيها، وساعده زوجان ألمانيان في الحصول على مساعدة مختصة، وتضيف «اللقاءات كانت ملهمة، وحاول الجميع تقديم ما يستطيعون في جميع المجالات، وأنا فتحت بيتي أمام أفراد عائلة كان عليهم الانتقال من شقتهم، وليس لديهم مكان يقيمون فيه، وكذلك فعل المشاركون الآخرون، إذ كانوا يفتحون بيوتهم وقلوبهم أمام كل من لديه مشكلة أو يحتاج الى المساعدة».

يعزز حذر الألمان وجود متشددين بين اللاجئين

بدوره، كوّن محمد، ابن عفرين، صداقات عديدة من خلال البرنامج، يصفها بالمؤثرة والمفيدة «حين أنجبت طفلتي الأولى، تلقيت مساعدة من قبل الأصدقاء الألمان في تسجيل المولودة في الدوائر الحكومية، وكذلك في تقديم مساعدات عينية لها، وحين بدأت البحث عن منزل، ساعدوني في البحث وأيضاً في الإجراءات الرسمية، ثم فوجئت بهم يخبرونني بأن شخصاً ألمانياً توفي، وأن الورثة تنازلوا لي عن مفروشات منزله، ولم يكتفوا بتقديم المفروشات، بل ساعدوني في النقل والتركيب». يشير محمد، إلى أنه بعيداً عن الترحيب والاحتواء الذي تلقاه خلال البرنامج، فهو لا يستطيع تجاهل التمييز الذي يعانيه السوري أثناء بحثه عن عمل، وأحياناً أثناء التعامل مع بعض الموظفين الألمان، «يعزز تلك الحالات وجود اللاجئين المتشددين، وقد زادت حدتها بعد حادثة الدهس في سوق الميلاد ببرلين في العام الفائت» يقول.
ومن الأفكار اللافتة، التي انبثقت عن البرنامج، كانت شجرة الأمنيات، التي علّق عليها اللاجئون بطاقات ملونة كتبوا عليها أمنياتهم البسيطة، التي لم تتجاوز أجهزة كمبيوتر محمولة، دراجات أطفال، عربات للرضع وأجهزة خلوية وأشياء أخرى بسيطة تولى تقديمها الألمان. ورغم أن سماح لم تتوقع أن تكون أمنيتها القلبية بمنزل آمن قابلة للتحقيق، إلا أن الشجرة التي اجتمع حولها السوريون والألمان جمعتها بزوجها الحالي، كلاوس، الألماني المتقاعد، الذي دفعته رغبته في التواصل مع القادمين الجدد الى المشاركة في البرنامج، وبالتالي لقاء نصفه الآخر الذي تبين أنه سوري.
علاقات الصداقة والمودة، التي تشكلت بين المشاركين، لم تنته بانتهاء البرنامج الذي استمر نحو عام، وما زال المشاركون يتبادلون الزيارات، ويلتقون في المناسبات والأعياد، كما أن فكرة البرنامج تم تعميمها في عدد من المدن الألمانية، تحت مسمى «International Tea Time».