غزة | لا يزال الدمار يغطّي مساحة واسعة من القطاع، وأكوام الركام ساكنة في محلّها. عامٌ مرّ على تجسيد غزّة «الملحمة الكربلائية» نيابةً عن العالم العربي، دون أن تجبّ تلك الملحمة ما قبلها من منازعات سياسية بين حركتي «فتح» و«حماس»، إذ لم يسلم ملف إعادة الإعمار من حق «الفيتو» الذي تشهره كل حركة بوجه الأخرى.
من جهتها، كسبت إسرائيل طوال عام مضى جولة مهمة من جولات تكريس الحصار المفروض على القطاع منذ ثماني سنوات وهندسته وفق مزاجها، بمساعدة الأمم المتحدة التي أرضخت القطاع لخطتها التي كانت بمثابة «الطُّعم» لغزّة ومقاومتها، متحكّمة بحركة الواردات والصادرات من غزة وإليها كمّاً وكيفاً. كذلك صار بديهياً أنه ليس خافياً على أحد أن وقف اتفاق الحرب ـ على هشاشته ـ لم تدخل بنوده الموصوفة بـ«الطارئة» مرحلة التنفيذ التام، لتبدو بذلك المطالب المرحلية كالممر المائي ضرباً من الخيال. كذلك، بعد «جردة» هذا العام، صارت غزة موقنة من تلوّث الأصابع المصرية بكابوس الحصار الذي اشتدّ بعد الحرب.

المثلث المعوِّق

لا يمكن إغفال أن الخطة الأممية لإعادة الإعمار (روبرت سيري) كانت أشبه بالمسمار في نعش إعمار قطاع غزة والتأسيس لبنية اقتصادية تدفع بعجلة التنمية، إذ لم يجتز القطاع بفعلها مرحلة الطوارئ للإنعاش المبكّر ليتسنّى له البدء في مرحلتي التدخّل السريع لإزالة الأنقاض، وإعادة الإعمار. كذلك عملت على مأسسة الحصار على نحو تُوَظّف فيه الأدوات التقنيّة والتكنولوجيّة لـ«ضبط» القطاع، ومنع وصول مواد البناء ذات الاستخدام المزدوج لأيدي المقاومة.
يحتاج القطاع إلى ما يقارب
10 آلاف طن يومياً من الإسمنت لإتمام إعادة الإعمار
هكذا، تحوّل القطاع - على مدار عام - إلى ساحة مضبوطة أمنياً من قبل إسرائيل ومكتب الأمم المتحدة للمشاريع (UNOPS)، والمسؤول عن الرقابة على مواد الإعمار من لحظة وصولها إلى معبر «كرم أبو سالم»، مروراً بنقاط التخزين والتوزيع، ووصولاً إلى تسليمها لأصحاب المنازل المدمّرة جزئياً، وذلك بشكل رفع من كلفة الإعمار الذي استحال مجرّد كاميرات مراقبة ورسوم على المعابر ورواتب لوحدات التفتيش وفرق المراقبة.
وخلال عام مضى، حاولت إسرائيل الاشتغال على هندسة القطاع وبنيته التحتية ومعرفة إحداثيات المنشآت، بما يضمن اختراق القطاع بسهولة في أيّ حرب مقبلة وتجديد «بنك الأهداف»، إذ أتاحت «خطة سيري» التي لا يزال معمولاً بها في غزة ـ مع بعض التعديلات ـ للاحتلال أن يؤدي دور «المايسترو» في عملية الإعمار، وذلك من خلال قاعدة البيانات المشتركة بين وزارة الشؤون المدنية الفلسطينية واللجنة الوزارية للإعمار والمسؤولين العسكريين الإسرائيليين، التي تضمّنت مسحاً دقيقاً للأضرار والاحتياجات. على إثرها، جرت «غربلة» أصحاب المنازل المدمّرة جزئياً ومنح فقط أصحاب الملف الأمني «النظيف» بنظر الاحتلال كوبونات خاصة لصرف كمية الإسمنت المحدّدة لهم بدقّة، وذلك قبل أن يوافق الاحتلال أخيراً على إدخال مواد البناء لـ 663 وحدة سكنية مدمّرة كليّاً من أصل نحو 10 آلاف منزل مدمّر كلياً خلال الحرب الأخيرة، ما يعني أن سوق الإسمنت الخاضع للسيطرة الإسرائيلية المباشرة حَكَم على الخطة بالانهيار التدريجي، وحكم على المتضررين بالانتظار القاتل لإعمار ممتلكاتهم.
واللافت هنا أن الاحتلال الإسرائيلي، مقابل ما سبق، حاول احتواء الغزيين تجنّباً للوصول إلى نقطة الانفجار، من خلال زيادة عدد المسافرين منهم إلى الضفة، وتسريع كثير من مشاريع الطرق المموّلة من قطر، إضافةً إلى مشروع مصنع «كوكا كولا» المملوك للقطاع الخاص الفلسطيني. كلّ ذلك بهدف حرف النظر عن المعوّق الرئيسي للإعمار، وتأليب الجمهور على «حماس» بصفتها حكومة الأمر الواقع في القطاع.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل تذرّعت طوال الفترة الماضية بعدم تسلّم حكومة الوفاق للمعابر، وتحديداً «كرم أبو سالم» التجاري، لعدم عمل الأخير بأقصى طاقته الاستيعابية (800 شاحنة يومياً)، فضلاً عن حظر العديد من المواد الخام والمعدّات والآليات وبعض مواد البناء. ويؤكد الخبير الاقتصادي ماهر الطباع في حديث لـ«الأخبار» أن «مجموع ما وصل من الإسمنت من تاريخ 14/10/2014 حتى اللحظة لا يتجاوز 135 ألف طن، وهو لا يغطّي من احتياجات القطاع سوى 15 يوماً فقط»، مشيراً إلى أن «غزّة تحتاج ما يقارب 10 آلاف طن يومياً لإتمام إعادة الإعمار»، ونافياً في الوقت ذاته إلغاء الخطة أو إيجاد بديل عنها.
في موازاة ذلك، يقدّر كثيرون أن السيولة المطلوبة للإعمار، التي أقرّها مؤتمر المانحين في القاهرة (2،7 مليار دولار)، ولم يصل منها إلّا مبلغ ضئيل جداً، تحتاج إلى ضمانات لتوفيرها للقطاع؛ أهمّها عدم انجرار الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى لعبة الشد والجذب التي مارساها أكثر من مرة بعد الحرب الأخيرة، وتأمين معادلة الهدوء الدائم في القطاع على نحو تضمن فيها الدول المانحة من أن أموالها لم تذهب هدراً. وتحايلاً على الظرف الحالي في القطاع، والمستقر بشكل حذر، تعمد كثير من الدول المانحة إلى تنفيذ مشاريعها المؤجّلة ما قبل الحرب عبر وكالات التعاون والتنمية الدولية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
سمح الاحتلال بإدخال مواد البناء لـ 663 وحدة سكنية مدمّرة كليّاً من أصل نحو 10 آلاف منزل

وعلى الرغم من أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أعلنت، أخيراً، أن عملية إعادة الإعمار ستشهد خلال الأسابيع القادمة تحسّناً ملحوظاً، بعد حل بعض «الإشكاليات التقنية» بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، غير أن هذا التحسّن سيظل محكوماً بالخطة التي تفرض كثيراً من الاشتراطات الإجرائية للموافقة على إعمار أيّ منشأة، ما يعني أن النتيجة ستكون أفضل من سابقاتها إذا ما قيست بالعام الذي مضى بعد انتهاء الحرب، لكنّها في الوقت ذاته ستعتبر مخيّبة للآمال إذا ما قورنت بحاجة القطاع العامة للإعمار.
هذا الكلام تعزّزه «الأونروا» التي أكدت أن الأموال التي بحوزتها تكفي فقط لإعادة بناء 200 منزل مدمّر كلياً، ويعزّزه كذلك طريق الآلام الذي يمر به الغزيّ المتضرر، حيث يفترض به أن يتقدّم للبلديات المختصّة للحصول على التراخيص اللازمة للبناء، قبل أن ترسل البلديات بدورها الكشوف المعتمدة لوزارة الأشغال التي تنسّق مع وزارة الشؤون المدنية لاستصدار المرافقات الإسرائيلية على إدخال مواد البناء، وذلك علماً بأن كثيرين تكبّدوا رسوم التراخيص، ثم لم يفلحوا في الحصول على الموافقة الإسرائيلية! كذلك، لا يمكن تجاهل الدور المصري في إغلاق معبر رفح والحيلولة دون دخول الإسمنت المصري إلى القطاع، خصوصاً بعدما دمرت القوات المصرية نحو 90% من الأنفاق. كل ذلك يندرج ضمن معركة «كسر العظم» التي خاضها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ضد «حماس» أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع، التي أفضت إلى توقيع اتفاق هزيل لوقف إطلاق النار.

مطبّ الانقسام الداخلي

لم تنجح الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة في «لمّ الشمل» بين حركتي «فتح» و«حماس»، إذ بدت وكأنّ آمال الفلسطينيين المعلّقة على بنود اتفاق وقف الحرب قد اصطدمت فعلياً بمطبّ الانقسام الداخلي، حيث حمّل كل طرف «غريمه» المسؤولية عن إخفاق الإعمار خلال العام. من جهتها، اعتبرت «حماس» أن السلطة الفلسطينية قد أسقطت القطاع من حساباتها من فترة طويلة، بعدما أبدت عدم جديّتها في الإيفاء بالتزاماتها تجاه تسلّم جميع المعابر في القطاع واستيعاب موظفيها ضمن كادرها التشغيلي. فيما «السلطة» كانت خلال هذا العام متمسّكة برواية «مقايضة حماس لها في تسليم المعابر مقابل الورقة المالية المتعلّقة بشؤون موظفيها». كذلك اتهمت «حماس» بعدم السماح لحكومة التوافق ببسط سيطرتها على المرافق والوزارات كافةً في القطاع، وهو ما عُدّ شرطاً أساسياً للأطراف الموقّعة لاتفاق وقف الحرب من أجل استحالة البنود واقعاً.
ورغم الحديث القديم الجديد عن قرب حدوث انفراجة جديّة في ما يتعلّق بالمعابر ودمج أو حل نحو 50 ألف موظّف حمساوي، غير أن الحال لم تتبدّل، وتبدو مرهونة بالمفاوضات غير المباشرة التي تعقدها «حماس» مع الاحتلال الإسرائيلي لإنضاج هدنة طويلة الأمد تشكّل بدورها رافعة إغاثية ومعيشية للقطاع، كذلك ترتبط بـ«الانقلاب» الأخير الذي أحدثه الرئيس محمود عباس على «حماس»، بعدما أحدث إصلاحاً وزارياً دون أن يشكّل حكومة جديدة تكون «حماس» مكوّناً رئيسياً فيها. ومن جهتهم، يرى كثير من المحللين أن «حماس» ليست «ساذجة» على النحو الذي يتصوّره بعضهم لتمنح الفرصة لرام الله لاستعادة وزنها في أوساط الرأي العام الفلسطيني عبر بوابة إعادة الإعمار. وحال غياب حكومة التوافق عن القطاع دون إدارة السلطة الفلسطينية لغالبية المشاريع المرتبطة بإعادة الإعمار، والمتعلقة تحديداً بإعادة تأهيل البنية التحتية من مدارس ومستشفيات وغيرها.

لعبة «الأونروا»

منذ فترة ليست بقصيرة، تشكو «الأونروا» من عجز مالي (100 مليون دولار) أصاب برامجها ومشاريعها إثر موجات «الربيع العربي» التي خلّفت مزيداً من اللاجئين. هذا الأمر انعكس سلباً على قطاع غزّة الذي اقتطعت من الميزانية المخصصة له أموالٌ لمصلحة بلدان أخرى تشهد صراعات ساخنة، حيث وصل عدد من لا يتمكّن من العيش إلا على المساعدات الإغاثية إلى نحو مليون شخص، وتحديداً بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع. وتعمد «الأونروا» إلى حقن أصحاب المنازل المدمّرة بمخدّر «الإيجار» بدلاً من إعادة الإعمار، حيث دفعت أخيراً للنازحين الذين ظلّوا في آخر مركز إيواء فتحته خلال الحرب، بدل إيجار لأربعة شهر، تراوح قيمته بين 800 و1000 دولار، علماً بأنها استعانت بأفراد الشرطة لإخراجهم من المدارس والسكن في مساكن بديلة أو تسلّم خيام ونصبها فوق منازلهم المدمّرة.
هذه المسألة المرتبطة بالإيجارات من شأنها أن تفتح الدفاتر القديمة بخصوص الغزيين الذين دُمرت منازلهم كلياً في رفح إبان «انتفاضة الأقصى»، حيث ظلّت «الأونروا» تدفع لهم الإيجارات لمدة تجاوزت 13 عاماً، إلى أن بُنيت عدّة أحياء في رفح، من ضمنها الحي السعودي الذي انتُهي من بنائه قبل الحرب الأخيرة على غزّة. وما يرجح كفّة إعادة هذا السيناريو أن الاحتلال الإسرائيلي وافق فقط على 85 منزلاً مدمراً كلياً لتعيد «الأونروا» إعمارها من أصل 200 منزل فقط من الممكن أن تتكفّل بالأمور المالية في شأنهم. ورداً على ذلك، يقول المستشار الإعلامي لـ«الأونروا»، عدنان أبو حسنة، في حديث لـ«الأخبار»: «هناك آلية جديدة تسير وفقها «الأونروا» بالنسبة إلى إعادة إعمار المنازل المدمرة كلياً، لكن تبقى هذه الآلية محكومة بتدفّق الأموال، حيث لم تحصل الوكالة إلّا على 216 مليون دولار من أصل 724 مليون»، مؤكّداً أن «الدفعة الأولى من إعمار هذه المنازل ستبدأ قريباً، فيما ستُدفَع التعويضات لـ61 ألف أسرة تضرّرت منازلها جزئياً». ويأمل أبو حسنة عدم تكرار سيناريو رفح، لكنه يؤكد أن ذلك خارج عن إرادة «الأونروا».
وفي سياق متّصل، أعلنت «الأونروا» في الفترة الماضية توقيع سبع اتفاقيات مع الحكومة السعودية، كان من ضمنها اتفاقية إعادة إعمار القطاع بمبلغ 74 مليون دولار، وذلك تجنّباً للمناكفات السياسية بين «فتح» و«حماس» التي أوصلت إعادة الإعمار خلال العام الماضي إلى طريق مسدود.




«جحيم» الكرفانات والخيام

بعد عام على العدوان، لم تق خطة إعادة الإعمار أصحاب المنازل المدمرة شرّ الكرفانات التي يبلغ عددها نحو 600 على امتداد القطاع، حيث لا تزال كثير من العائلات تقاسي في هذه المنازل المتنقلة التي تسرّب برد الشتاء القارس وحرارة الصيف الشديدة إلى أجساد سكانها. إبراهيم أبو ريدة من بلدة خزاعة شرق خان يونس الذي كان قد فقد منزله بالكامل خلال الحرب الأخيرة، يعدّ واحداً ممّن يعيشون في تلك «الأفران» منذ أشهر، والمكوّنة من غرفتين ضيقتين فقط. واليوم، يستعيد أبو ريدة الذكرى الأولى للحرب بكثير من القنوط، بعدما خذلته وعود إعادة الإعمار، إذ يقول: «خذلنا الجميع، وها نحن نحيي ذكرى الحرب، وأنا وعائلتي المكونة من 9 أفراد لا نزال نعيش في هذا الهلاك والجحيم، حيث نغرق بالمياه في الشتاء، وتنصهر أجسادنا في الصيف، كذلك تجتاحنا الحشرات الضارة من كلّ مكان»، مطالباً الأطراف السياسية الفلسطينية بحل أزمتهم المستمرة. أما محمود عبد الكريم، فقد اضطر إلى بناء كوخ من الخشب والنايلون أمام أنقاض منزله المدمر، بعدما تنصّلت الأطراف المعنية من صرف بدل إيجار له أو إيوائه بكرفان. ويقول عبد الكريم بحرقة بالغة: «عام مضى على الحرب، وأنا لا أزال أعاني من التشرّد، والأمراض تزداد بين أطفالي، فيما أقف عاجزاً أمام حمايتهم ووقايتهم»، مضيفاً: «ليس هناك من أيّ بارقة أمل حول بدء إعادة منازلنا. الجميع تركنا نواجه مصير الموت وحدنا».