حمص | في ذكريات مدينة حمص القريبة، لا تبعث المنطقة على الراحة. هُنا عند نقطة الالتقاء بين مَوتين، وعلى مرأى ومسمع من القلعة الأثرية، تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ حمص قائمة على الإنماء والإعمار. لعلّ ورش العمل والصيانة في حديقة «طريق الشام» توضح الجهود الحثيثة لإعمار المكان، غير أن إعمار النفوس في أحياء لم يكن السلام سائداً في ما بينها، هو الهدف البعيد من المشروع الحالي.
عشرات المتطوعين من المنطقة والأحياء المجاورة، وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، يظهرون كما لو أنهم خلية نحل يعمل سائر أفرادها على تأهيل وتخديم الحديقة التي عانت ما عانته جراء الحرب السابقة.
بدأ العمل على تأهيل الحديقة المنكوبة منذ مطلع العام الحالي. لم تكن العوامل الجوية عنصراً مساعداً على الإسراع في العمل، غير أن وضع الحديقة كساحة لبقايا مخلفات الحرب لم يترك لليأس مكاناً في نفوس الهواة من المشاركين في الأعمال الفنية التزيينية. وخط التماس الذي كان سابقاً مسرحاً لأعمال القنص ــ مع بدايات الحرب الحمصية ــ صار اليوم منفذاً أخضر يلجأ إليه البسطاء من الأهالي المرهقين بفعل الحرب وآثارها. وذلك بعد خروج أكثر من 65% من حدائق المدينة عن الخدمة. بيوت متراصة ومتواجهة تحيط بالحديقة على الجانبين. لا أحد يحيط بهواجس أهلها ومخاوفهم، غير أن الأمل بها كبير من قبل القيّمين عليها، لتنجح في كسر الجليد الذي سبّبته الحرب على الحياة الاجتماعية.
يقوم فريق الأمم المتحدة بعمله بتعاون من محافظة حمص، شرط وجود كتب رسمية وموافقات لازمة من وزارة الخارجية السورية، ما يفتح الباب أمام زيادة المشاريع التنموية في حمص، نسبة إلى محافظات أُخرى. أعمدة سميكة ملوّنة بالأحمر تتخلل سياج الحديقة الخارجي، الذي يسير الناس بمحاذاته، دون تفويت فرصة استراق النظر إلى داخلها لرؤية مستجدات العمل. فواصل اسمنتية مزينة بالزجاج الملوّن المكسر بين تراب الحديقة وممرات المشاة. الزجاج ذاته يزين الجدران أيضاً بأشكال محببة للأطفال.

حارس الحديقة المتحمّس للمشروع يشير إلى العصافير التي عادت إلى المدينة
بحيرات صناعية تتوسّطها بيوت خشبية صغيرة لطيور البط، ومساحات خضراء مزروعة بشكل هندسي تضفي جمالية خاصة على المكان. أقواس معدنية تحمل أصص أزهار ملونة، ومنحوتات خشبية مثبّتة على بقايا أشجار مكسرة أو محترقة تنتشر في جميع جوانب الحديقة، إضافة إلى بيوت خشبية صغيرة معلقة على أعالي الأشجار، تبدو كما لو كانت مساكن لطيور كبيرة. مجسّمات للأطفال على شكل حيوانات وشخصيات كرتونية حلّت محلّ الأشجار المحترقة وركام الحرب، خلال مرحلة وضع اللمسات الأخيرة قبل الإعلان عن افتتاح الحديقة لتكون متنزّهاً لأهالي المنطقة. فهُنا مجسّم لامرأة عجوز تنظر بحنوّ إلى الأسفل، وهُناك مجسمات حجرية للسنافر والسلاحف وحيوانات مختلفة، مع رسوم عدة تضفي عناصر جاذبة إضافية. يقدّر هادي غصن، المشرف على العمال، عدد العاملين ضمن المشروع بحوالى 70 عاملاً، اهتموا بترحيل الأنقاض وتهيئة البنى التحتية لاستقبال فريق الهواة من المهتمين بتزيين الحديقة وتجميلها، لتبدأ مرحلة من «إعادة تدوير» الأشياء المهملة والمخربة، كالزجاج المكسر والأخشاب والأحجار وقطع الحديد، والاستفادة من كل ذلك في صناعة مناظر مفرحة لرواد الحديقة. ويثني غصن وعدد من أهالي المنطقة على المشروع، بوصفه يوفر فرص عمل لأبناء المدينة.
تنبسط الحديقة تحت مستوى قلعة حمص الأثرية، التي تعلوها بـ 32 متراً فقط، فتحتل جهتها الشمالية الشرقية، فيما تتجاور الحديقة مع الصالة الرياضية من جهتها الجنوبية. ويقطع الحديقة ممر أفقي يقسمها إلى نصفين، يسمح بدخول العابرين من أحياء عكرمة والنزهة وباب السباع، نحو أحياء المحطة والغوطة والإنشاءات. يذكر أحد العمال بملامح تخيّم عليها الطمأنينة والحماسة، كيف انزعج أهالي المباني المجاورة من بدء عملية تجميع الركام لترحيله. يقول بابتسامة تنمّ عن بساطة وطيبة اشتهر بها أهالي المدينة: «افتكروا إنو رح نزيد الزبالة. ما حدا تخيل إنو الحديقة رح تصير هيك». يقول جملته، مشيراً بيده إلى المجسمات وجنائن الورد الملون والناس الآمنة الملتجئة إلى فيء الأشجار العالية الناجية من الحرق والتخريب. حارس الحديقة أكثر المتحمسين لتحسينها وعودة الطمأنينة إلى النفوس. يشير إلى العصافير التي عادت إلى المدينة، ويعلّق بصوت متأثر: «حتى العصافير رجعت تنزل على الأرض وتمشي بجانبنا بلا ما تجفل مننا». يختصر قول الرجل رحلة عمل شاقة تفصل الحمصيين عن استعادة ألق المدينة والثقة المتبادلة في ما بينهم.