صحيح أن المملكة مرغمة على «مسايرة» شقيقتها لاعتبارات عدة؛ من بينها: الدور الذي تلعبه أبو ظبي في إطار عمليات تحالف العدوان، والضابط الأميركي الذي يريد للإماراتيين دوراً متقدماً على البحرين الأحمر والعربي، إلا أن السعودية قد تجد نفسها في نهاية المطاف إزاء خيارات تصادمية، لطالما تكررت بوادرها في مدينة عدن، ولا يُستبعد أن تمتد، اليوم، إلى حضرموت.
في الأيام القليلة الماضية، برزت إلى العلن مؤشرات قوية إلى ذلك الاحتدام الذي لا يزال مكبوحاً تحت لافتة «التحالف العربي» و«الشرعية اليمنية». على الرغم من قيام السعودية، عبر وكلائها في حضرموت، تكراراً، ببعث رسائل تحذيرية إلى الإمارات من مغبة عقد ما عُرف بـ«مؤتمر حضرموت الجامع»، إلا أن الأخيرة أصرّت على المضي به، مجلّية تمسكها بـ«تجزيء» ملفات جنوب اليمن، والتعامل مع كل ملف بما تقتضيه مصلحة أبو ظبي. باكراً، بدأت الرياض «التشويش» على المؤتمر الذي انعقد في 22 من الشهر الجاري، غير أن الأيام القليلة التي سبقت انعقاده شهدت تكثيفاً غير مسبوق للمواقف المناوئة له. مجموعة رجال مال وأعمال سعوديين (من أصل حضرمي)، يتصدرهم عبدالله أحمد بقشان ومحمد حسين العمودي، ويُنظر إلى تصريحاتهم بوصفها تعبيراً عن الموقف الرسمي السعودي، أصدروا قبيل خمسة أيام من بدء الفعالية بياناً أعلنوا فيه انسحابهم من المؤتمر، لكونهم، بحسب البيان: «يحملون الجنسية السعودية، ولن يشاركوا في أي تكوين سياسي، وسوف يعملون بما يتوافق مع قيادة المملكة». وشدد الموقعون على ضرورة «التنسيق مع قيادة التحالف العربي، وعلى رأسها السعودية، من أجل إنجاح المؤتمر وضمان تنفيذ مخرجاته».

أدارت الإمارات الأذن الطرشاء للمناشدات السعودية
وعُقد مؤتمرها


موقفٌ أثار ردود فعل ساخطة في أوساط الأجنحة «الحضرمية» المحسوبة على الإمارات، وبلغ الأمر بأحدهم حد القول: «لن نجعل السعوديين يديرون حضرموت بالريموت كونترول، مهما كانت أموالهم وأعمالهم... قولوا لهم يقطعوا المصروف». بالتوازي مع ذلك، أعلنت بعض وجوه قبيلة كندة، من الشخصيات المحسوبة على السعودية، انسحابها هي الأخرى من المؤتمر، معتبرة أن «من الحكمة والعقل أن يجري هذا المؤتمر بتنسيق وتوافق مع قيادة التحالف العربي، وعلى رأسها المملكة السعودية والإمارات». وناشدت القبيلة الرئيس المستقيل، عبد ربه منصور هادي، تأجيل عقد المؤتمر «حتى لا يخلق فتنة».
أدارت الإمارات الأذن الطرشاء للمناشدات السعودية، وانعقد المؤتمر برعاية رجل أبو ظبي في حضرموت، المحافظ أحمد بن بريك، وحماية قوات «النخبة الحضرمية» التي تسعى الدولة الثانية في تحالف العدوان إلى توسيع صلاحياتها. المفارقة أن الوثيقة الصادرة عن «المؤتمر» طالبت هادي بالإسراع في المصادقة على إعلان حضرموت «إقليماً مستقلاً»، واضعة ذلك في إطار تطبيق مخرجات الحوار الوطني، علماً بأن هذه الأخيرة تنص على إقليم متكون من حضرموت والمهرة وشبوة وسقطرى. مفارقة فُهم منها أن ابن بريك، ومن ورائه أبو ظبي، يريدان الإبقاء، ولو شكلياً، على خيوط «التحالف» مع الرياض، تماماً كما فُهم ذلك من إعلان ابن بريك تشكيل لجنة من أعضاء المؤتمر، ستقوم بزيارة كل من السعودية والإمارات، وشكرهما على «ما بذلتاه في سبيل انعقاد المؤتمر».
بخلاف ما تقدم، كل ما تضمنته الوثيقة يشي بما ترسمه الإمارات من محددات لمستقبل المحافظة الغنية بالنفط، والمطلة على البحر العربي. إلى جانب مطالبتها بإعلان حضرموت، منفردةً، كإقليم، نصت الوثيقة على أنه «يحق لأبناء حضرموت ترك الاتحاد متى رأوا أنه لم يعد على النحو الذي اتُّفق عليه»، ما يؤشر إلى نية كامنة بسلخ حضرموت عن الكيان اليمني، حتى لو اتخذ الأخير صورة دولة اتحادية متشكلة من أقاليم.
كما أن الوثيقة تضمنت عدة بنود، مفادها التشديد على الدور الإماراتي المتقدم في حضرموت. من ذلك، على سبيل المثال، اعتبار يوم إعلان «النخبة» الموالية للإمارات «تحرير حضرموت من القاعدة» عطلة رسمية، وتوفير المشتقات النفطية اللازمة لتشغيل محطات الكهرباء في ساحل حضرموت وواديها بكلفة إجمالية بلغت 7 مليارات ريال (علماً بأن ابن بريك كان قد أعلن في أوائل نيسان نية الإمارات إنشاء مصفاة نفطية بكامل ملحقاتها في مدينة الشحر، على مقربة من ميناء الضبة النفطي)، واعتماد حضرموت «منطقة عسكرية واحدة بقيادة حضرمية، وتعزيز قوات النخبة الحضرمية ورفع جاهزيتها القتالية بما يضمن قيامها بالمهمات المناطة بها» (يقر التقسيم الحالي للمناطق العسكرية في اليمن منطقة عسكرية أولى تنتشر في شمال حضرموت ومقرها سيئون، ومنطقة عسكرية ثانية تنتشر في جنوب حضرموت والمهرة وسقطرى ومقرها المكلا).
هذه المخرجات لم ترق جناحَ «الشرعية» الموالي للسعودية. لم تكد تمر 3 أيام على اختتام المؤتمر، حتى أُعلن استقبال هادي في مقر إقامته في الرياض «مشائخ ووجهاء وشخصيات اجتماعية من إقليم حضرموت». وأعاد هادي، خلال اللقاء، التشديد على «بناء اليمن الاتحادي الجديد المكون من ستة أقاليم؛ بينها إقليم حضرموت»، واعداً بـ«أننا سنعمل على توجيه الحكومة باستمرار العمل على استكمال تأسيس الأقاليم»، في رد ضمني على ما ورد في وثيقة «مؤتمر حضرموت الجامع». في اليوم نفسه، غرّد نائب الرئيس المستقيل، المحسوب على «التجمع اليمني للإصلاح» (إخوان اليمن)، في حسابه على «تويتر»، قائلاً: «الانقلاب على مخرجات الحوار هو انقلاب على أحلام اليمنيين في التغيير والبناء، والدولة الاتحادية المكونة من ستة أقاليم هي الضامن لأمن اليمن». وعلى النغمة نفسها، عزف رئيس حكومة هادي، أحمد عبيد بن دغر، قبل يومين، مؤكداً أن «السلطة الشرعية لن تسمح أبداً بانقسام اليمن ولا بتجزئته، ولن تسمح أبداً بسقوط الشرعية».
حتى الآن، لا تزال الردود السعودية على «المؤتمر الحضرمي» الإماراتي مقتصرة على الجانب الكلامي، حيث تتناوب الوجوه الموالية للرياض على مهاجمة المؤتمر، إلا أن الأمور قد لا تبقى مقتصرة على هذه الحدود، إذا ما قررت أبو ظبي المضي في تطبيق مخرجاته. في هذا الإطار، تفيد المعلومات الواردة من حضرموت بأن السعودية بدأت تحركات فعلية، غير مباشرة، بهدف استعادة حضورها في المحافظة، وخصوصاً أن الإمارات متجهة نحو مزيد من التوسع الأفقي والعمودي في جنوب اليمن. توسع يشمل، أفقياً، التمدد في المحافظات الجنوبية الرئيسية، بما في ذلك سقطرى التي لا يستبعد البعض قيام أبو ظبي، لاحقاً، بعد استكمال سيطرتها عليها، باستفتاء سكانها على الانضمام إلى الاتحاد الإماراتي، وكذلك المهرة التي ستكون، في حال امتداد الأعين الإماراتية إليها، محل تنازع مع سلطنة عمان. أما عمودياً، فتشتغل الإمارات على «تفريخ» القوى العسكرية الموالية لها، وكسب رضى السكان بمشاريع اقتصادية واستثمارية تطال الموانئ والمطارات والخدمات.وفي ما بدا أنه ردٌّ سعوديٌّ على التحركات الإماراتية، أقال عبد ربه منصور هادي، مساء أمس، محافظ عدن عيدروس الزبيدي (صاحب نفوذ واسع، وموال للإمارات)، وعيّنه سفيراً في وزارة الخارجية، فيما عُيّن عبد العزيز المفلحي بدلاً منه.