تونس | "في جنازتي العسكرية
أوقدوا الشموع في احتفالات ملكية
دثروني بالورود... بالأغصان الندية
احملوني بهدوء... بأيادٍ عربية
غطوا نعشي بالزهور... بأعلام وطنية
ودعوني في شموخ في أراضٍ تونسية
ادفنوني بين أهلي... بين نجم وثريا
سوف أبقى أناجيكم... في أحلامي الأزلية
فاذكروني كل يوم... حين كنت بندقية
اذكروا أني وهبتكم عمري في معارك ملحمية"

هذه السطور النثريّة ذات النفس الشعري ألهبت المواقع الاجتماعية في تونس خلال الأيام الثلاثة السابقة، لا لشيء إلا لأنّ كاتبها وهو ضابط شابّ دون الثلاثين من عمره قد نشرها على صفحة "فايسبوك" الخاصّة به قبل ساعات قليلة من استشهاده بأسلحة خليّة إرهابية في أعماق الجنوب التونسي على بعد أكثر من خمسمئة كيلومتر من العاصمة تونس.
يراهن الإرهابيون، وخاصّة من "القاعدة" و"داعش" ومشتقاتهما، على أن تروج ثقافة الرّعب في المنطقة العربيّة عموماً وفي البلدان المستهدفة، ومنها تونس خاصّة. ويبدو أنّ أحد عناصر هذه الاستراتيجية تكمن في تثمين كثرة المقاتلين التونسيين أو من أصل تونسي في سوريا والعراق وليبيا وتضخيم أعدادهم أحياناً، والحديث عن تونس باعتبارها "ساقطة سلفاً" في حبائلهم، والتخطيط لعمليات إرهابية مريعة مثلما حدث في متحف باردو أو في أحد فنادق مدينة سوسة مع التركيز على "تأمين" المنفّذين لحياة المدنيين التونسيين الموجودين بالصدفة في مكان الاعتداء. لكنّ ما تعرّضت له التنظيمات الإرهابية في تونس من فشل في عدد من مخططاتها، والإيقافات المتتالية للعشرات منهم، إضافة إلى "الاستقبال المرح" لمنفذي محاولة الاستيلاء على مدينة بنقردان الجنوبية في الشهر الماضي (بوقوف سكّان المدينة المهمّشة والمفقّرة والمحاصرة تقريباً إلى جانب قوّات الجيش والحرس الوطنيين والإسهام بعفويّة في التصدّي لهذا الهجوم)، أدخل ارتباكاً واضحاً على الجهات المخططة للإرهاب.
السطور التي كتبها الضابط الشابّ قبل أن يسقط ملتحماً بتراب وطنه تعكس ثقافة تتعزّز من يوم لآخر في تونس، ثقافة الاستعداد للموت، استعداد للشهادة في سبيل تأمين البلاد من مخاطر الإرهاب الإسلامويّ، وثقافة البذل والعطاء بعيداً عن المطلبيّة المادّية التي خشينا أن تكون قد تسرّبت إلى الجيش والتنظيمات الأمنية بفعل العدوى المجتمعية التي طارت بالمجتمع التونسي في السنوات الأخيرة لتجعل المطلبيّة عنصراً قارّاً والرّبح المادّي شرطاً أوّل ــ والوحيد أحياناً ــ في علاقة الموظّف (العموميّ أساساً) بالإدارة وبالمواطن. حتى صارت بعض الإدارات الملأى بموظفين زائدين على اللزوم تشتغل بما يقلّ عن خمس أو ربع موظّفيها.
الثقافة التي أخذت تسود في الجيش التونسي ولدى الشباب في بعض القطاعات، ثقافة مغايرة لحالة العطل التي خفنا أن تكون عامّة. وما كتبه الضابط الشابّ على جداره "الفايسبوكي" رسالة غير مشفّرة إلى "داعش" وأخواتها بأنّ المجتمع التونسي بكلّ تناقضاته وضعفه ما زال قادراً على التصدّي للإرهاب، ولو كان الوهن عامّاً أو شبه عامّ، ولو كانت الدولة ضعيفة أو فاقدة للهيبة كما يتردّد عندنا. هذه السطور القليلة تعكس وعياً تونسيّاً من الطبقة الوسطى بأن موته لن يكون خالياً من المعنى إذا سقط وهو يدافع عن وطنه أمام أعداء الحياة.
انبرى المعلّقون في المجال الافتراضي يقارنون بين هذا السلوك وبين الفضائح التي لا تكلّ عن القدوم من مجلس النوّاب ومن الأحزاب والجمعيات ومن الإدارات المركزية مثقلة بروائح الفساد وضعف الوازع الوطني والبحث عن الاستفادة من المواقع الإدارية والسياسية والحزبية، في سخط تامّ على أداء الطبقة السياسية وفشل الإدارة وسيطرة المحسوبية والزبونية على بلاد كانت ثورتها (كما يؤكّد الكثيرون) مبشّرة بنقلة نوعية، لا لتونس وحدها بل للمنطقة كلها.
"الفايسبوكيون" توقفوا عند بعض الأحداث التي وقعت في اليوم ذاته والتوقيت ذاته الذي سقط فيه الضابط الشابّ مع ثلاثة من رفاقه في ساحة الشرف، من بينها استقالة الأمين العام للحزب الفائز في الانتخابات لعجزه عن التسيير مع تكرّر تدخّل ابن مؤسس الحزب (أي رئيس الجمهورية الحالي) في التسيير اليومي، ومن بينها أيضاً ما نشرته نائبة برلمانية تنتمي هي الأخرى إلى الحزب الأوّل من خطاب جهوي تحريضي بمناسبة مقابلة كرة قدم! والحدث الثالث كان بمناسبة بثّ مقابلة كرة القدم نفسها، إذ اكتفى مسؤولو التلفزيون الوطني (الرسمي) بكتابة خبر يعلن سقوط شهداء الجيش الأربعة دون قطع بثّ المباراة، ما عُدّ استهتاراً بالجيش وبمقاومة الإرهاب.
تونس نعت شهداءها الأربعة، ووصيّة هذا الضابط نُفّذت بحذافيرها، أمّا "تونس ــ الثورة" فلم يعد واضحاً خطّ مسارها.