لا يفكر المجرم في جريمته وقت تنفيذها. ربما لو فكّر فيها لما ارتكبها. لا يجرؤ على رؤية الدم الذي يشخب على التراب، ولا الأرواح الشفيفة التي تختنق. يشيح بوجهه خوفاً من نظرة ضحيته. أما أولئك المجرمون الجدد، قتلة الحياة، إرهابيو النصل السلفي، فلا يرون شيئاً سوى واجبهم المهني، وضرورة تأدية المهمّة القاتلة على أكمل وجه. لا يرون فعلتهم تقع في باب الجريمة. حتى هذه الكلمة (قتل) تحمل حكماً أخلاقياً يرون أنفسهم مُعفَين منه. هم موظفون فحسب، بأمر إلهي يصل إليهم، من طريق وسيط بشري، قرأ الكتب والتفاسير وامتلك ناصية الحق. هم مؤدو رسالة، سعاة بريد الموت، لا يرون أنفسهم في موضع الدفاع.
الدفاع يناسب المرتكبين، وهم ليسوا كذلك. يلائم من يشعرون بذرّة خطل في ما يفعلون، وهم ليسوا كذلك. هم رسل لا أكثر، أداة أو وسيلة، تشبه المعول أو الدراجة أو المطرقة. لكن الفارق يكمن في كنه الرسالة المنقولة، يكمن الفارق في الصدور المخسوفة، والأبدان المصعوقة.
كان تحطيم التماثيل الحجرية، على الأغلب، مهمة أصعب من جز الأعناق، وبتر الأطراف، وحرق الأجساد. الحجر استعصى على مئات الغزوات والحروب والطغاة، وبقي صامداً. ذلك أن الحجر يقاوم بعناد، الحجر لا يبكي، لا يتوسل، بينما لا يمتلك البشري القدرة ولا الرغبة على المقاومة. يستسلم لحظّه الدمويّ، ويسلّم رقبته للنصل.
الغرابة أصلاً في عدم
انطباق فعل التحطيم على
فكر التحطيم
شاهدنا جميعاً كيف صارع أولئك المجاهدون لتدمير التماثيل، في الموصل والرقة وإدلب، بعضهم استخدم آلات كهربائية، بعدما حاول مراراً التشبّه بالأنبياء في استخدام المطارق. جهدوا وتصببوا عرقاً في ما يفعلون، حتى كدنا نشفق عليهم حقاً. كدنا ننصحهم باستخدام أدوات أخرى، أو تغيير زاوية الهدم، لكنهم أتموا المهمة بنجاح، في بلاد لم يبق شاهداً على عظمتها الماضية إلا الحجر. الحجر وحده من سلم من التشويه والعبث، وربما بقليل من القبول نستطيع استثناء شيء آخر: الأعداء، ذلك أنهم هم أنفسهم من سلموا من التغيير، حافظوا على عدائهم لنا نقياً وناصعاً، حافظوا على الظلم الموزّع، بينما لم نحافظ على عدالتنا الخرقاء. نستطيع أن نفخر هنا حقاً، أعداؤنا هم أنفسهم منذ أكثر من ألفي عام، أعداء الحياة والفرح والرقص، بينما لم يستطع أخوتنا الحفاظ على مشاعر الأخوّة أكثر من عامين.
من كلّ الحضارات السابقة، التي قامت في هذه البلاد، لم يبق إلا بقايا القلاع والحصون الصغيرة. تكفّلت الحروب المتعدّدة، حروب الأخوة، وغزوات الغرباء، بالقضاء على الرقيق والهش منها. نشاهد في الحضارات الغربية، والشرقية البعيدة، على حد سواء، مدناً كاملة، بغرف نومها وحمّاماتها، أثاثها وأدوات طبخها، بملابسها وحليّها، التي ما زالت تحتفظ ببريقها كأنها صنعت أمس، بينما لم يبق ما يدل على وجود حضارات، في هذه البلاد المعذّبة، إلا بضع أحجار وتماثيل آيلة للسقوط. وها هم يخلصوننا من هذا الوزر الثقيل. أسواقنا القديمة، وبيوتنا الحجرية، وساحات مساجدنا، وكنائسنا العتيقة. يعيدوننا إلى البياض الأول، إلى ما قبل تأسيس الأمم، يجردوننا من ثقل حضارتنا، لنطير، خفافاً، بلا ماضٍ وبلا أمل، نصبنا التذكارية لمعارك الاستقلال، أبطالنا القوميون، وجوه مبدعينا وعظمائنا، ها هي تتهاوى تحت عصف الهمجية السلفية، قرب الأدوات المسكينة، مقاتلو الحرية.
غرباء نقول، شيشان وأتراك وأفغان. لا نجرؤ على الاعتراف بأنهم أخوتنا. لا نجرؤ على القول بأنهم سوريون مثلنا، وربما أكثر. لا تنطبق طهرانيتنا، المزعومة، على جرم مماثل، لكننا في الوقت عينه لا نتبرّأ من الجريمة نفسها. «لا يعرفون قراءة الاسم العربي على تمثال هنانو فحطموه»، نغطّي المجرم برمي الجريمة على آخر غريب. كأننا بذلك نستطيع إخفاء تاريخ من الأخوّة الملغومة، الحروب الأهلية تحتاج غريباً دائماً ليقدح فتيلها. في لبنان الحرب الأهلية كان الغريب فلسطينياً، في عراق الاحتلال الأميركي كان الغريب إيرانياً، وفي سوريا كان الغريب غريباً تماماً، إذ إننا ملائكة لا أكثر. نحن نقوم بالأشياء الجيدة، أما الأشياء القبيحة فيفعلها الغريب. نحن متفرغون لصنع الشوكولا، وكتابة رسائل الموبايل الخفيفة الدم، وتلوين بيض الفصح، أما الحرب البشعة فيقوم بها الغريب.
لكن الغرابة أصلاً في عدم انطباق فعل التحطيم على فكر التحطيم، إذ لا حاجة لتمثال المعرّي، أو البتاني، في مكان لا ينتمي إليه، في فكر لا يقاربه. لا حاجة للمعرفة في وقت يختصر فيه عالم ملتح كل العلوم الأدبية والفلسفية بثلاث كلمات لا غير. رأيت كيف كان طيف الابتسامة ساخراً على وجه تمثال المعرّي، وهم ينهالون عليه بالمطرقة، مثلما رأيت بوذا من عليائه يسامح من يفخخون تمثاله في أفغانستان بضحكة هادئة.
وأيضاً لنكن صرحاء. هي تماثيل رديئة الصنع، قليلة المؤدّى، سكّها أنصاف موهوبين، بالتحالف مع الفساد الإداري. التماثيل الجديدة التي ستقام لهؤلاء، لأبطالنا ومبدعينا، لشهدائنا وأمهاتهم الباسلات، للجند المرابطين على تخوم الحياة، ستكون من صنف مختلف تماماً، سينحتها فنانون موهوبون حقاً، بمطرقة العدالة، وإزميل الحرية، بحيث يقف الإرهاب عاجزاً أمام الجمال، وربما حرّره الجمال من بؤسه الداخلي.